إن هذه الصنائع بعضها نظرية وهي العلم الطبيعي، وبعضها عملية، وهذه منها صناعة الطب التجريبية، ومنها صناعة التشريح.
فأما العلم الطبيعي؛ فإنه تتسلم منه كثيرا من أسباب الصحة والمرض، ولا سيما الأسباب القديمة، كالأسطقسات (العناصر) وغيرها.
وأما صناعة الطب التجريبية فإنه يستفيد منها معرفة قوى أكثر الأدوية، فإن الذي يدرك منها بالقياس نزر بالإضافة إلى ما يحتاج من ذلك، بل سبيل هذه الصناعة الطبية القياسية أن تعطى أسباب ما أوجدته الطريقة التجريبية.
وأما صناعة التشريح فإنها تتسلم منها كثيرا من أجزاء موضوعاتها، ولما كان صاحب الصناعة ليس يمكنه أن يعلم المبادئ المتسلمة في تلك الصناعة، بل إن كان فمن حيث هو صاحب صناعة أخرى؛ وجدت تلك المبادئ في صناعته من حيث هي مشهورة، وبخاصة في التي لا يتفق له فيها الوقوف على اليقين في جميع أجزائها، كتجربة الأدوية، فإنه بالإضافة إلى الوقوف على هذا الجزء من الصناعة استقصى بقراط العمر الإنساني في قوله: العمر قصير، وأما في الجزء القياسي منها فليس هنالك قصر.
وكذلك الأمر في زماننا هذا في كثير من الأعضاء المشاهدة بالتشريح؛ إذ كانت هذه الصناعة قد دثرت.
وينبغي أن تعلم أن صاحب العلم الطبيعي يشارك الطبيب؛ إذ كان بدن الإنسان أحد أجزاء موضوعات صاحب علم الطباع، لكن يفترقان بأن هذا ينظر في الصحة والمرض من حيث هي أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا؛ ولذلك يحتاج الطبيب بعد معرفة الكليات التي تحتوي عليها هذه الصناعة إلى طول مزاولة، وحينئذ يمكن أن يوجدها في المواد، فإن الكليات المكتوبة في هذه الصناعة يلحقها عند إيجادها في المواد أعراض ليس يمكن أن تكتب، فإذا زاول الإنسان أعمال هذه الصناعة حصلت له مقدمات تجريبية يقدر بها أن يوجد تلك الكليات في المواد، وذلك كالحال في الصنائع العملية التي تستعمل الروية.
وأرسطو يخص هذه من بين الصنائع العملية بالقوى ، ومن هنا يظهر أن ما قيل في حد الطب من أنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما أنه حد غير صحيح؛ وذلك أنه أسقط من هذا الحد الفصل الذي به يتميز نظر صاحب هذا العلم من نظر صاحب العلم الطبيعي، وكذلك أيضا لا يلتفت إلى ما يقولونه من الحال التي ليست بصحة ولا مرض، فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس و(لا ضرره) وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر، وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر، وهذا بين مما قيل في العلم النظري ... (3-3) أمراض الدماغ
أكثر أمراض الأعضاء الباطنة التي تحتاج إلى الاستدلال عليها هي: إما أورام وإما سوء مزاج مادي أو غير مادي.
والدماغ يعرض له أصناف سوء المزاج - أعني الحار والبارد، والرطب واليابس - ويستدل على واحد واحد منها بالعلامات الدالة على غلبة ذلك المزاج على الدماغ، مثل حمرة الوجه وسخونة الملمس التي تدل على غلبة الدم، وتخص سوء المزاج الحار أو البارد أنهما يتبعهما الوجع المسمى صداعا، إلا أنه في المزاج الحار أحد.
وأما الرطوبة واليبوسة فليس يكون عنهما وجع، بل إنما يكون عن الرطوبة ثقل فقط، وقد يستدل على الرطوبة بثقل الرأس وكثرة النوم وكدر الحواس، وعلى اليبوسة بأضداد هذه الأعراض.
अज्ञात पृष्ठ