على أن الغزالي هو الذي انتفع بجهود أسلافه جميعا في هذا السبيل، سبيل الرد على الفلاسفة، وزادها وقواها، وضرب بذلك الفلسفة ضربة لم تنهض بعد منها في الشرق، كما يقول مونك، وإن كانت وجدت في الغرب من انتصف لها، وهو ابن رشد، بعد دفاعه عنها دفاعا مبينا.
وكان الهدف الذي يرمي إليه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» إبطال ما يدعون، وبيان ضعف عقيدتهم، واختلاف آرائهم وتناقضها، وبخاصة فيما يتعلق منها بالمسائل الإلهية.
ولم يقصد إلى إثبات الحق في المسائل التي كانت مثار النزاع والخصومة بين المتكلمين والفلاسفة؛ فقد كان في نيته تخصيص كتاب لهذه الغاية، ولذلك نجده يقول في مسألة قدم العالم: «وأما إثبات الحق في نفسه، فسنصنف فيه كتابا بعد الفراغ من هذا «تهافت الفلاسفة» ... ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهدم.»
وكان منهاج أبي حامد في هذا الكتاب ، الذي أراد به الهدم، العمل على نزع الثقة بالفلاسفة؛ فجعلهم أغبياء وزائغين عن سبيل الله ، وناكبين عن طريق الهدى، وظانين بالله ظن السوء، ومغرورين بعقولهم، زاعمين أن فيها غنية لهم عن تقليد الرسل واتباعهم!
كما كان من منهاجه أيضا التشويش عليهم ومغالطتهم، ومحاولة إفحامهم بإلزامهم جميعا مذهب واحد منهم، وإن كان ظاهرا خطؤه، ولا يتفق وما ذهب إليه أساطين الفلسفة الإغريقية.
وأخيرا، كان من منهاجه في الرد على الفلاسفة بيان قصور العقل وعدم قدرته على معرفة الأمور الإلهية بنظره وحده، وأن معرفة هذه الأمور على حقائقها لا ينالها إلا المصطفون الأخيار من أنبياء الله ورسله.
وهكذا قصد الغزالي لما أراد كل سبيل، ولجأ إلى كل سلاح يجد فيه عونا على طلبته، فماذا كان من ابن رشد لهذا الخصم اللدود القوي؟ الخصم الذي لم يلجأ إلى المنطق وحده، ولم يرد بيان الحق في نفسه؛ ولهذا - فيما يقول - لم يسم كتابه «تمهيد الحق»، بل سماه «تهافت الفلاسفة»!
2
أراد فيلسوف قرطبة أن يدفع عن الفلسفة أو الحكمة ما رآه عدوانا من الغزالي وأمثاله، وأن ينافح عنها وينتصف لها، وقد فعل، لكنه لم يكن في خصومته مجادلا بالحق والباطل، بل لم ينس في هذه الخصومة العنيفة أنه قاض؛ فهو يزن ما يدلى به إليه، ويدفع الحجة بالحجة، ولا يأبى أن يعترف بالحق لصاحبه.
ويبدأ ببيان أن غرضه من الرد على «تهافت الفلاسفة» للغزالي ليس بيان الحق في كل المسائل المناقش فيها، بل أن يبين أن للسفسطة في هذا الكتاب نصيبا كبيرا، وأن أكثر ما فيه من أقاويل قاصر عن مرتبة اليقين والبرهان.
अज्ञात पृष्ठ