أما الغني فلا يمكن أن يستطيره الفرح أو يزدهيه ربح لم يكن في مرجوه مهما كان كبيرا؛ لأنه حين يقيس نفسه بغيره من أصحاب الملايين لا يجد نفسه بتليد ماله وطريفه شيئا مذكورا، فلم الزهو والكبرياء إذن؟!
وكذلك العالم الذي يتنقل من لون من ألوان المعرفة إلى لون آخر، وكلما انتقل من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، هو دائما في كد عقلي، وتعب فكري. وخاتمة المطاف أو الطواف تكون شعوره بقلة العلم، وصغر النفس، وعجز العقل عن أن يحيط بالكون كله، أرضيه وسمواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك كله من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية أن يغدو كلما عمق علمه، كلما اشتد تواضعه، ولان جانبه.
والوقفة الثانية هي أن فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الملوك والخلفاء، فلم يفد من ذلك لنفسه، بل قصر هذا على خير أهل بلده خاصة، والأندلس عامة، والأمر في نظري جد طبيعي.
إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته التي يهدف لها معرفة الحقيقة، ولذته هي في أن يدرك من هذه الحقيقة حلقة بعد حلقة، أو طرفا بعد طرف، وهذه اللذات العميقة المتصلة أو المتجددة تستهويه، وتعلو جدا في نظره حتى لا يوازن بينها وبين لذات جمع المال، ورفاهة العيش، وطيب الحياة.
من ثم فهو لا يبالي هذه اللذات ونحوها، ما دام قد جعل همه ووكده المعرفة الحقة، وما يكون في إدراكها من لذة عقلية روحية هي أسمى ضروب اللذات؛ ومن ثم كانت نزعته الاجتماعية وحبه لخير الناس جميعا، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله - أو يقصر جاهه وماله - على المحرومين من اللذات العقلية التي جعله الله أهلا لها بما ينفق من عقله وتفكيره.
وهناك وقفة ثالثة بعد هاتين: إن الذين ترجموا لفيلسوف قرطبة وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية،
1
وهذا الوصف يتيح لنا أن نقول: إن نزعته إلى الفلسفة بدت أول ما بدت في الفقه.
ذلك بأن الذي يعتد برأيه وتفكيره، ويحاول أن يدري ويبحث بعقله، لا أن يروي ويصدق ما يرويه كله فحسب، ويجتهد في تعرف علل الأحكام الشرعية على اختلافها، باختلاف الأئمة والفقهاء، ويوازن بين هذه الآراء بعقله ونظره. ذلك الذي يكون هذا حاله في الفقه لا يكون بعيدا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من بعض نواحيها، ما دامت الفلسفة هي البحث عن العلل، ومحاولة فهم العالم وقوانينه.
وإذن، فمن الممكن، بل من السهل الميسور، أن نرى في ابن رشد الفقيه الآن ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.
अज्ञात पृष्ठ