इब्न रूमी
ابن الرومي: حياته من شعره
शैलियों
وغني عن القول بعد هذا أن «التنبه» كان هو السمة الغالبة على الشعر كله في ذلك العصر الدائب على التفتيش والانتقاد، فكان شاعرهم ينظم القصيدة وهو واع لنفسه، عامد لترتيب أبياته، عارف بمواضع التجويد في لفظه ومعناه، وتتابع الشعراء كبارهم وصغارهم على هذا، فكان فيهم كل ما في هذه الطريقة من المآخذ والفضائل، ومن عناصر الضعف والقوة. •••
وتغيرت أغراض الشعر، فهذا الذي يقول فيه ابن قتيبة: إنه لا يعدو مدح قينة أو وصف كأس ...! وإنما كان هذا الإمام الناقد الذي درس الشعر ووازن بين أصوله وفصوله مستنكرا مستصغرا يرى الشوهة، ويغمض عن الحسنة، ولولا ذلك لرأى أن الشعر قد كان يعدو مدح القيان، ووصف الكئوس إلى أغراض كثيرة تشمل كل وصف، وتدخل في كل معرض من معارض الحياة في ذلك الزمان، ولم يقل فيها إلا ما كان وقفا على أغراض البداوة، وأيام الجاهلية الأولى؛ لأن هذه البداوة قلت فلم يكن لها نصيب من الشعر إلا القليل.
لكنا نخاله كان على حق فيما شكاه من شح الجوائز وكساد سوق أهل الأدب عامة عند الملوك والأمراء، فاشتغال هؤلاء الملوك والأمراء بالشعر ونظمه وحفظه وروايته شيء، وإجازتهم عليه الجوائز السنية شيء آخر.
إنما كانوا في عصر ثقافة يود فيه كل امرئ كامل المروءة أن يعرف كل ما يعرف من الآداب والفنون والملاهي، فإذا تعلموا الشعر فكما يتعلم الرجل المثقف التوقيع على المعازف والشعوذة، وطرائق التفكهة والإضحاك في مجالس السمر، ولا يلزم من ذلك أن يكون لهذه الأشياء أو لأهلها المنقطعين لها خطر في نفسه.
ولا عجب أن يكثر الناظمون وحافظو الشعر في زمن كانت الوزارة فيه والكتابة - أو صناعة الأدب - فنا واحدا، وشارة واحدة، وكان معظم الوزراء والولاة من الأدباء الذين ظفروا بالحظوة عند الخلفاء، ولكن أمورا كثيرة طرأت في أواخر ذلك العصر كان من جرائها تطفيف أرزاق الشعراء، وابتلاؤهم بكثرة النظراء وقلة النصراء، ومنها توزع العناية بين العلوم الحديثة والشعر الذي كان مستأثرا بجل عناية العرب في صدر الدولة الإسلامية، ومنها غلبة المنادمة على الشعر، وترجيح صفة النديم على صفة الشاعر إذا تعذر الجمع بين الصفتين، ومنها قلة الاكتراث للمدح والذم حين استبحر العمران، واستفاضت المناعم واللذات، وشاعت الإباحة والمجون، ومنها كثرة الشعر والشعراء، فقد أصابه وأصابهم ما يصيب كل كثير من الرخص والبوار.
ومنها أن الدعوة السياسية خرجت كلها - أو أغلبها - من أيدي الشعراء إلى أيدي الدعاة، الذين تفرغوا لهذه الصناعة وبلغوا بها أيام العباسيين والعلويين شأوا من البراعة والإتقان قلما يفاق في عهد من العهود، ومنها اضطراب أمور الحكم واختلال أحوال الرعية في أواسط القرن الثالث بين عصرين سعيدين، فات السابق ولم يأت بعده أوان اللاحق، ونعني بهما عصر الهيبة والثروة والعطايا والملك الموطد المرجو المخوف، وقد ذهب، وعصر الأمراء الذين تقسموا المملكة، واستقر كل منهم على جزء منها، وتنافسوا بينهم في اجتلاب الشعراء والتشبه بالخلفاء، ولم يأت بعد!
فكان الشعراء ضائعين من هنا وهناك، وربما كان هذا سر خفوت الشعر وقلة الشعراء المجيدين في الربع الأخير من القرن الثالث، والربع الأول من القرن الذي تلاه.
الدين والأخلاق
إذا عرفت حالة السياسة وحالة الاجتماع وحالة التفكير، فليس بالحاجة الدينية ولا الخلقية خفاء.
لأن عقيدة المرء شديدة الصلة بتفكيره ومعيشته، ومجرى الأحكام في زمانه، وظاهر بعدما تقدم أن الدين في القرن الثالث لم يكن «دين الفطرة» الذي يؤمن به شعب لم يعرف الترف والفساد، ولم يشهد من ولاته إلا العدل والاستقامة، ولم يتعود أن يناقش نفسه في عقيدته وعقيدة غيره، فنشوء المذاهب واختلاف الآراء ضرورة لا محيد عنها في أمثال تلك الأحوال.
अज्ञात पृष्ठ