इब्न रूमी
ابن الرومي: حياته من شعره
शैलियों
8
وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس ...
فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط، قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء ومن المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله بالتكذيب، وهو لا يدري من نقله، فقد رضي عوضا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف، وفلان دقيق النظر. يذهب إلى أن لطف النظر قد أخرجه من جملة الناس، وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر، وهو - لعمر الله - بهذه الصفات أولى، وهي به أليق! لأنه جهل وظن أن قد علم؛ فهاتان جهالتان، ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياه الله بنور الهدى وثلج اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنصب لذلك وعاداه وانحرف عنه إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون، والفساد، وسمع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية، والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع وظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل!
إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعرض لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر وخبر واستخبار ورغبة، ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي: الأمر والاستخبار والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر! والآن حد الزمانين! مع هذيان كثير ... ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع كلام رسول الله وصحابته؛ لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب ... فلما أن رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب رسمه، ويعفو أثره، جعلت له حظا من عنايتي، وجزءا من تأليفي، فعملت لمغفل التأديب كتبا خفافا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد يشتمل كل كتاب منها على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل ...
وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شدا شيئا من الإعراب، فعرف الصدر والمصدر، والحال والظرف، وشيئا من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء وأشباه ذلك. ولا بد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي والمدورات والعمودين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر ليس كالمعاين.
وكانت العجم تقول: من لم يكن عالما بإجراء المياه وحفر فرص المشارب، وردم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودوران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر في استهلاله واقفا له، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه، وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصا في حال كتابته. ولا بد له مع ذلك من دراسة أخبار الناس، وتحفظ عيون الحديث؛ ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا إذا كتب، ويصل بها كلامه إذا حاور، ومدار الأمر على القطب، وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معها بإذن الله كاف، والكثير مع غيرهما مقصر.
هكذا كان حكم ابن قتيبة على عصره.
وابن قتيبة أديب لغوي فقيه ولد في أوائل العقد الثاني من القرن الثالث، ومات في سنة ست وسبعين ومائتين، ونشأ وعاش في بلاد العراق، فهو معاصر ابن الرومي في زمنه، وقرينه في وطنه، وشاهد عيان لذلك العصر يحدث عنه بما اختبر ورأى من صفات أهله.
فهل أصاب ابن قتيبة أو أخطأ في حكمه؟
अज्ञात पृष्ठ