وفيما هم يتجادلون على هذا المنوال، وفيما هم يتكلمون حول ما أجاد المعلم في صنعه، وما وجب ألا يفعله في تلك الأيام بأورشليم، كان أحدهم يهوذا صامتا مستمعا مفكرا.
ويهوذا هذا وحده هو غير الجليلي بين أولئك الرجال والنساء، ويهوذا هذا قد ترك المنطقة اليهودية منذ طويل زمن؛ ليتبع المعمدان في البداءة على ما يحتمل، ثم لحق بيسوع الذي أعجبه كلامه ومذهبه أكثر من أن يعجبه شخصه على ما يظهر، ويلوح لنا أنه هجر أهله وطلق صنعة ونقدا ومالا، وقد جعل قيما على المال المشترك لروحه العملية، وهو الوحيد من بين رفقائه في الاطلاع على العالم قبل التحاقه بالنبي الناصري الذي لم يعرفه سابقا، فكان يعرف أولياء الأمور ويعرف أورشليم، ويعرف ماذا ترك ولماذا ترك، وغير ذلك أمر الذين وجدهم مقربين لدى المعلم فأصبحوا إخوانا له؛ فقد كانوا خياليين متحمسين من الجنسين، وقد نشئوا في مدن صغيرة، وبيئات ضيقة، وفيهم ما في أهل الجليل من اتقاد الذهن والحماسة، وهم لم يتركوا شباك صيدهم ومحاريثهم إلا تلبية لنداء ذلك الناصري العذب الكلام في شواطئهم.
ويسأل يهوذا عما كان يعمل في هذه الحال أو تلك الحال لو كان في محل معلمه، وعما فعل هذا المعلم من خير، وكلما دنا يهوذا من وطنه القديم تنبهت فيه دوافع صباه السابق، وكلما حن إلى أسرته ومهنته وعاودته أفكاره التي أقصته عن أهله اغتم بما لا يقل عن غم المعلم نفسه على ما يحتمل، وماذا حدث؟ وماذا صنع المعلم لينال السلطان، ويحقق واسع الآمال؟ أيعتقد حقا أن الرب سيغمس يده من أعلى السماء في هذا العالم المعقدة أموره، فيمهد السبل لابنه؟ أجل زاد التلميذ بين يوم ويوم ألما من الانتظار، واستمع في الهيكل مع الآخرين إلى الأمثال والتهم والأجوبة، ولكن من غير أن تتمخض حركة منذ طرد يسوع أعداءه من الهيكل في اليوم الأول، وها هو ذا البطل يصفر وجهه غير متقدم إلى الأمام!
جثسيماني.
ويقول ليهوذا همسا أصدقاؤه القدماء وأقرباؤه فيزيدون ريبه: أهذا هو معلمه؟ أمن أجل هذا ترك صنعته وماله وهجر كل شيء؟ أمن أجل اتباع مجنون لم يسطع أن يحمل الناس على إطاعته؟ ويجد يهوذا بعد عودته ما يجذبه في السلطة، وفي الكهنة، وحللهم واتزان خطاهم، وفي إعجاب الأجانب، وأما ذلك الذي ضحى من أجله بكل شيء فقد دخل أورشليم بسيط المظهر عابسا راكبا أتانا! وهو الآن لا يبدي حراكا!
وتساور الشكوك يهوذا فيما يقوله معلمه، فيعزم على البت بإخلاص لا عن طفرة، ويرى يهوذا معلمه مغتما فيألم؛ لما يبصره من إضاعته للساعات الأخيرة التي يمكن العمل فيها، ولما يشعر به أكثر من إخوانه، من أن الشريعة تجمع قواها لتدوس ذلك الممسوس المزعج، ويهوذا هو أول من قدر أن شعور يسوع بدنو أجله هو الذي أملى عليه خطبته الأخيرة التي قالها في الهيكل، فأخاف بها تلاميذه أكثر مما أنار بها بصائرهم.
والآن يبدو يسوع جامعا لقواه مرة أخرى، فيظهر أمام تلاميذه أنه المسيح بما أوتي من قوة، فيعرض نفسه على أنه المخلص بين الشدائد والزلازل والمجاعات، فاسمع ما يقوله وهو جالس هو وتلاميذه في المساء الخامس حول المائدة في بيت عنيا: «وحينئذ تبصر جميع قبائل الأرض ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقاصي السماء إلى أقاصيها ... لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله، السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول ... ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه، والجداء عن اليسار، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم؛ لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني ... بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر ، فبي فعلتم.»
وهكذا يسعد يسوع أو يدين من يعمل الخير أو الشر، وهكذا يعلن نفسه قاضيا ربانيا بأصرح مما في أي زمن، فلا يتردد في إنباء هؤلاء الذين يسمعون كلامه بأنهم سيرونه نازلا من السماء في هذه الحياة الدنيا، وهكذا يبوح بذلك إلى جمعه الصغير متمثلا ما فكر فيه بقيصرية فيلبس، بعد أن طوت أورشليم كشحا عنه فعادت لا تصغي إليه، وينظر إليه أولئك الذين يحيطون به فيؤمنون به، ويهوذا وحده هو الذي يصعب عليه أن يرضى بذلك فيسأل: لماذا يرتد يسوع في معترك الحياة فيذكر متمدحا أمام خلصائه سلطانه ذلك، ومجده ذلك؟ فبهذا تشتد شكوك يهوذا!
وإن السكوت ليسود المائدة بعد ذلك؛ إذ يفاجأ الجالسون حولها بامرأة رأت يسوع حديثا، فهذه المرأة الجميلة جمال مريم المجدلية فيما مضى لم تبد من الضراعة مثل ما أبدت، فتتوجه إلى يسوع الذي أدخل الإيمان إلى قلبها كتمثال، تتوجه إليه وهي تحمل بيديها قارورة من رخام أبيض، فتكسر عنقها، فتصب جميع ما فيها من الطيب الهندي الثمين على شعره، فتدهن جسمه، فيدهش الحاضرون خلا يهوذا الذي تحول الشك فيه إلى أزمة، فيجرؤ على لوم المعلم الذي لم يمنع مثل هذا التبذير فيقول: «لماذا كان تلف الطيب هذا؟ كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء!»
لم يسبق أن عامله تلميذ بمثل هذا، ويحدق إلى هذا الذي يرفع صوته فوقه، فهل شعر ببذرة التمرد في بيته، أو يعد يهوذا عصبيا مقدرا أن دخول الهدايا في خزانته خير من تبذيره على شعر المعلم؟ فاسمع تعنيف يسوع إياه برفق. «اتركوها! لماذا تزعجونها؟ قد عملت بي عملا حسنا؛ لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا، وأما أنا فلست معكم في كل حين، عملت ما عندها، قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين.»
अज्ञात पृष्ठ