وينهض الحاضرون شاعرين بأن تلك الساعة من الأوقات النادرة الثمينة، راغبين في سماع جواب الراقصة ، أفتطلب أسورة من لؤلؤ لتزين بها معصميها وكعبيها؟ أم تطلب مدينة؟ أم تطلب نصف ولاية؟ ولماذا تعرب عن رغبتها بصوت خافت لكيلا يسمعها أحد؟ أفي رغبتها هذه ما هو شائن؟ وما هو سبب اصفرار وجه هيرودس ونهوضه بغتة واضعا يده على قلبه؟ وأي شيء أقدمت عليه؟ لم يدرك ذلك أحد؛ وإنما رئي بروق عيني هيروديا، وتوارى الأمير.
ينزوي هيرودس في الردهة المجاورة فيسأل في نفسه مبهورا: أرأس يوحنا؟ أجعل الرب ابتلاءه في نقاب الراقصة الحسناء؟ ألا يستطيع أن يمنحها شيئا آخر؟ فيستدعيها ويستحلفها بأن تعدل فيتمثل لها أمر أمها، فلا تتنزل عن رغبتها، فلا ترضى بأية مدينة أو ولاية بدلا من ضرب رقبة يوحنا، ووضع رأسه على طبق من ذهب، وعبثا حاول هيرودس أن يحمل زوجته على دعوة سالومة إلى سبيل العقل والحكمة، بل ظلت هذه الزوجة صامتة جامدة، ولم لا بعد كل هذا؟ ليس يوحنا غير مسكين مفتون مسجون في الديماس هنالك، ليس يوحنا غير عدو للأغنياء والأقوياء، ليس يوحنا غير حاقد على الناموسيين؛ فما فائدة مداراته؟ ألم يسع في عبر الأردن فسادا؟ ألم يهيئ النفوس للعصيان؟
ويشير هيرودس على عبيده ويأمر بقطع الغناء.
ولا أحد يدري ما حدث ولا ما يحدث، وينتظر الضيوف، ويصمت بعضهم، ويتكلم بعضهم همسا، ولا يتناول أحد منهم خمرا، ويحاول هيرودس أن يتجلد تجاه ما يقع، وتسمع خطوات ثقيلة على الدرج، ويصعد فيه رجال مسلحون باتزان، ويحمل آخرهم طبقا عليه رأس يوحنا المعمدان، ويقدمه الجلاد إلى سالومة فترتد متكمشة ثم تتقوى، فتأخذ الطبق وتسلمه إلى أمها.
ذاع الخبر في البلاد بسرعة البرق، والبلاد تهتز لحوادث وقعت قبل ذلك، فبلاد الجليل على الخصوص كانت مضطربة، ففيها خلفت عصابة من ذوي الحمية يهوذا الجليلي فتقدمت إلى أورشليم؛ حيث شتمت الرومان، وهاجمت حرس الهيكل، فتمكن بيلاطس من القبض عليهم، فكان المسمى باراباس أحدهم، فعلم يسوع ذلك في أثناء عزلته، فرآه أمرا متصلا برسالته، نذيرا لفتنة شاملة مصدقة لآياته، ويسقط في تلك الأثناء برج بالقرب من بركة سلوام ، فيهلك ثمانية عشر رجلا، فتزيد أعصاب يسوع توترا.
هنالك أخبر يسوع تلاميذه بإعدام يوحنا المعمدان فبهت، فيتمثل حوادث الأردن وسجن يوحنا وذبحه، فيرتعد وتشل حركته، ثم يجد في يوحنا المثل الذي يعين مكانه، فيلوح أن يوحنا يصرخ من قبره قائلا له: «يأتي بعدي من هو أقوى مني.»
أفيأتي؟ أفتكون حياة المعمدان مثلا لمصيره؟ تثير زوبعة من المشاعر قلبه، فتبدو الطريق التي كان يسره أن يرى غيره سائرا فيها خالية، فلم يبق ما يجعله مترددا، فليطبق على العمل ما ساوره في الأسابيع الأخيرة من السوانح إذن.
وهكذا يحفزه يوحنا إلى سلوك طريق مجهولة للمرة الرابعة، فلما غسله يوحنا بماء المعمودية أوجب خروجه من جباله ليختلط بالجمهور، ولما قبض على يوحنا حمل عبء عمله، ولما سأله يوحنا أيقظ المسيح الراقد فيه، واليوم يحمله قتل يوحنا على البت جهرا، ويوحنا حين يتوجه تتويجا خفيا يكون قد عين له طريق الآلام.
يستحوذ الخوف على يسوع للمرة الثانية، فيسمع من جديد صوت أبيه البعيد كما سمع في المرة الأولى، ولكن صوت اليوم هو صوت صاعقة، لا صوت حمامة كالذي جاء ليخبره عن أيام البهجة والسرور.
ويحيق الخطر بيسوع من الخارج ما عزم هيرودس على ذبح كل ذي بدعة، ويلوح شبح الاضطهاد ليسوع من الخارج ما شعر الفريسيون بأنهم في مأمن؛ غير أنك ترى يسوع متعطشا في صميم فؤاده إلى تأدية دين رسالته الثقيل إلى الرب، وإلى بلده وشعبه ونفسه.
अज्ञात पृष्ठ