كان يوحنا قد زار تلك الردهة الكبيرة التي يدخلها الآن، ومن دأب ذوي السلطان في هذه الدنيا أن يجلبوا الطراوة إلى الرداه المصنوعة من حجر باستعمال الستائر السمر، وأن يأتي إليهم العبيد بالفواكه المثلجة عندما يؤمرون، وقد يزل من ينقل في بضع دقائق من سجنه المظلم ذي الهواء الخانق إلى تلك الردهة الزاهية، كما نقل يوحنا، ما لم يكن من ذوي العزم من الرسل، فهل ذلك ابتلاء جديد ليوحنا؟ أجل، إن ملامح ذلك الرجل الذي وخطه الشيب،
15
وأخذ وجهه يتكرش بعد جمال، فتراه متكئا على وسائد لا تدل على الرغبة في تعذيب الناس، غير أن تلك التي تسترق السمع من وراء حجاب، فتسمى هيروديا، فيلمحها يوحنا تتوارى حينما جيء به إلى هنالك، لا تزال في عنفوان شبابها، فتبدو ذات سلطان قوي، فتعرف كيف تحمل زوجها ذلك على الخضوع لإرادتها.
رفع ذلك الأمير عينيه من بين تلك الوسائد الحريرية ذات الألوان الكثيرة إلى ذلك النبي الهزيل الرث الثياب الواقف أمامه، فيحاول الأمير أن يخفي خلف نظره التعب وجله وإعجابه وحبه للاطلاع، فيكتشف النبي ذلك فيزول خوفه، ولا يعرف ماذا يرغب هيرودس أن يسأل يوحنا عنه، وإن علم أن يوحنا يؤاخذه على زواجه الإجرامي، فيطالبه بتطليق زوجته؛ لما في تزوج امرأة الأخ الحي من مخالفة للشريعة، ولما ينطوي عليه هذا الزواج من الزنا، فضلا عن خيانة الأخ لأخيه المضيف له، وليست هذه هي المرة الأولى التي تلام فيها تلك الأسرة على مثل ذلك؛ فقد سبق أن عاب كهنة أورشليم هيرودس الكبير على كثرة ما عقد من نكاح وحل من زواج؛ ولكن الذي يتكلم ذلك هو الآن مسكين سجين في قلعة منعزلة، فيمكن ضرب رقبته فيها على حسب هوى الأمير.
ويجرؤ يوحنا على القول، ويتردد هيرودس في القتل مع ذلك، ويتفرق أتباع يوحنا أيدي سبأ، ويظهر نبي جديد، ويبدو حملة الشريعة مناهضين للاثنين، فما الذي يمنع الأمير الجبان من الفتك إذن؟ ولم لا يأمر بإعدام ذلك الذي استفزه وأهان زوجته؟ ها هو ذا واقف أمامه طويلا شبه عار مجلجل الصوت، شديد الوعيد، خشن اللحية، أشعر البدن، محذرا إياه سوء العذاب الأبدي، وإنه ليبتعد إذ جاءت هيروديا، وهي تنعت الأمير بالنذالة، وتنظر إليه شزرا، ويعاد النبي يوحنا القوي إلى السجن بهدوء، ويستقبل فيه تلاميذه، ويبلغ الرسالات في البلاد لا ريب.
لم يلبث التلاميذ أن رجعوا إلى السجن حاملين للمعمدان أنباء انتصارات الناصري، ويجهر يسوع بعداوته للفريسيين، ويجهر الفريسيون بعداوتهم ليسوع، ويسوع لم يفتأ يبرئ المرضى، والنزاع بين الفريقين يتفاقم، فلم يعتم يوحنا أن اعترف بأن يسوع يسير على سنته، فيجاهد كما كان يجاهد، فصار يوحنا يدحض وساوسه حول يسوع النبي المرح المحب للرحلات وللولائم، فطفق يسأل تلاميذه عن بعض الجزئيات في مواعظ يسوع وسلوكه، وتقابل الاثنين؛ إذ كان متعذرا، وكان يوحنا يسأل في نفسه كل يوم عن مدى رسالته، وعاقبة عمله، رأى أن يستوضح يسوع أمره.
ومع ذلك ترجح يوحنا بين الخوف والرجاء، فإذا قال يسوع: إنه المسيح المنتظر لم تذهب آلام يوحنا سدى، وكان لعمله قيمة، ولحياته معنى، ومع ذلك لم ير يوحنا الصواب في مناقضة يسوع لقدماء الأنبياء في أساليبه مناقضة جالبة للنظر، وإن كان أعظم منه.
أمر يوحنا التعب المضطرب من خلال قضبان السجن تلاميذه بأن يسألوا يسوع: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» •••
لم يتكلم يسوع عن المعمدان قط، فكأنه يريد أن يتجنب ذكراه، ففي المعمدان يرتبط أشد أدوار حياته عندما خرج معمدا بماء الأردن فرأى الحمامة بعين بصيرته، فسمع بعد مسافة صوت أبيه الرب، أكان ذلك في الربيع الماضي؟ ألم تمض بضعة أشهر فقط منذ كان مرتبكا فأخبره أوائل الحجاج بالقبض على يوحنا واقتياده إلى السجن؟
وكان يسوع يكثر من الحديث عن الأنبياء السابقين، مع تحاشيه عن ذكر يوحنا الذي هو نبي في زمانه ، وما كان يسوع راغبا في غير المحافظة على القديم مع تجديد، ولا شيء أبعد عنه من جهاد يهوذا الهدام الذي نغص صباه، وهو يذكر حسرات إشعياء ضد الظالمين، وهو يكرر قول هوشع: «إني أريد رحمة لا ذبيحة.» وهو يقتدي بالأنبياء وخطباء الشعب الذين وضعوا الأغنياء والزنادقة منذ قرون على مستوى واحد تعظيما للفقراء، وهو يجد في كتاب النبي أخنوخ «إدريس» ابن الإنسان الذي ظهر لقذف الملوك من عروشهم إلى جهنم، فقال: «ويل لكم أنتم الذين تشيدون قصوركم بعرق الآخرين، فكل حجر فيها خطيئة.»
अज्ञात पृष्ठ