تلك هي مدرستهم الوحيدة، فإذا ما كدر أحدهم صفو الدرس ضربه المعلم، ومن الإنصاف أن يقال: إن عمل المعلم شاق ما اختلفت اللغة التي يتكلمون بها عن اللغة التي يقرءون بها، فلبلادهم الجبلية لهجة مختلطة يضحك من نبراتها الآرامية جميع إسرائيل، فإذا ما تم الدرس انصرفوا إلى حيث أرادوا.
وفي الشارع أشياء كثيرة تستوقف النظر؛ فمن هذا الشارع الناصري، الذي هو شارع أمم بالحقيقة، يمر من ينزلون إلى مرفأ بتولمايس، مع ما لديهم من السلع وغيرها، قاصدين الداخل وطبرية والمناطق الشمالية ودمشق، ويشاهد الصبيان في هذا الشارع تتابع الجمال والخيل والحمير والمركبات والجنود والتجار ونساء هؤلاء وعبيدهم، فيتعلمون بضع عبارات إغريقية، وتبعد صفوري ثلاث ساعات من هنالك، ويزيد في صفوري عدد المشركين عن اليهود.
ويأتي من الشرق إلى ذلك الشارع تجار فنيقيون وعلماء عرب، ويأتي إليه أيضا أفاقون من الأجانب ليعودوا إلى أوطانهم بحرا، وإذا ما اهتزت الأرض وعلا الضجيج كان مصدر ذلك جنود حاملون سيوفا قصيرة، مدرعون، جمعهم قيصر رومة من جميع البلدان، فترى بينهم السمر، وترى بينهم الشقر، وتبصر بينهم الممشوقين، وتبصر بينهم المتوحشين، ويولي جميع اليهود الرايات الرومانية ذوات الصور الوثنية ظهورهم لكيلا يلزموا بتحيتها، ويشير صبيانهم إليها بأصابعهم كمن يريد أن يتبين في صورها المحرمة مكان اللعنة والشر.
واليهود حين يرون تدفق أولئك المشركين من كل صوب وحدب يستحوذ عليهم ذعر مع ثبات إيمان، فيثير ذلك بينهم من الأحاديث ما لا حد له، وذلك الفتى الصامت، حين يجلس مساء على عتبة المنزل بالقرب من أبيه فيسمع تحسره مع جاره من بؤس الزمن، يرى في ذلك إيضاحا لما شاهده في الشارع، فينقش في ذاكرته أن جميع المنطقة التي يراها من أعلى جبل تابور، وجميع الأراضي التي تحيط بها إلى مسافة مئات الأميال كانت ملك اليهود، فنزعها الرومان منهم، فضلا عما يطالبونهم به من الضرائب والمكوس. والرومان هؤلاء استولوا منذ بضع سنوات على الهيكل بالنار والحديد، فولجوا قدس الأقداس كما قيل، فظهر سمعان الجميل عبد الملك هيرودس فحرق قصر الملك بأريحا، وظهر عملاق قوي الشكيمة كموسى، فوضع التاج على رأسه وحارب الرومان.
بيد أن هؤلاء جميعهم غلبوا. •••
اشتعلت الفتنة بغتة في الناصرة وسائر بلاد الجليل التي ارتجفت أيام نشوب الثورة في مناطق الحدود؛ ففي جمالا، البعيدة بضع ساعات من الناصرة، التف حول يهوذا الجليلي رجال أشداء لتحرير الوطن، ولدى يهوذا هذا ما يحفزه إلى الثورة؛ فقد قتل صنيعة الرومان هيرودس أباه، فأصبح لزاما عليه أن يثأر به، فبدا ساعد حزب المتطرفين الجديد الذي يرأسه صادوق، فكان من برنامجه عدم الخضوع للرومان، ومن أقوال رجاله: نحن أحرار فلا نشعر بواجب نحو أحد غير الله، أتريدون حمل الأهالي على دفع الضرائب؟ ألا تعلمون أن الأنبياء هددوا الملك داود عندما ود إحصاء بني إسرائيل؟ أنتم راغبون في جمع إتاوة من أقل سنبلة ننبتها، وأصغر زجاجة زيت نصدرها! أنتم تجاوزون حدود الطمع بهذا! أنتم تقصدون إذلال شعب الله المختار على مرأى من المشركين! والفريسيون إذا صبروا على ذلك فلجهلهم سر ما جاء به قدماء الأنبياء، وأما نحن فإننا - بما عليه من عدم الاحتمال، وشدة السخط، وزيادة الحركة - نوجب ظهور المسيح المخلص.
رفع يهوذا الجليلي وصحبه راية العصيان فباغتوا مستودع الأسلحة بصفوري، فأخذوا ما فيه من عدد الرومان ونقودهم، فدعا لهم الكهنة بالنصر والتوفيق، فانطلقوا إلى طرد الأجانب من فلسطين، ولم يفتأ جيشهم يعظم حتى ضاق ما وراء جبال الجليل بهم ذرعا، وعلم القائد الروماني فاروس ذلك فأسرع في الحضور من سورية، وحضر معه جنود يزيد عددهم على عدد أولئك العصاة خمس مرات، وانضمت إليه كتائب الأمراء المجاورين، فألقى الرعب في أورشليم بعد إنقاذ، وقمع الثورة وقتل ألفي ثائر على الصلبان، وفر يهوذا.
يقص آباء الفتيان وأساتذتهم عليهم أنباء انتصار شبان الجليل وانكسارهم، فيرتجفون، فتتجاذبهم عوامل الحقد والأمل، فيتمثل لهم يهوذا بطلا مختبئا في كهوف لبنان مفكرا في وضع خطة جديدة للثأر، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا أن الرومان اعتقلوه وصلبوه، فطأطئوا رءوسهم. ولسرعان ما رفع ذكر يهوذا فعد شهيد الأمة! فنظمت القصائد تكريما لذكراه، فقيل فيها: إنه قتل في سبيل حرية بلاده، والثأر بأبيه وأجداده، وأضحى القوم ينظرون إلى الصليب المصلت على أبواب أورشليم رمزا للمجد والشرف ، وصاروا يتحرقون انتظارا لعمل شيء جديد بعد غيظ، وغدوا يعتقدون أن ظهور المسيح المنتظر موقوف على رفع نير الرومان عنهم.
ويظل ذلك الفتى المفكر وحده هادئا في الكنيس متعطشا إلى المعرفة، مستمعا إلى أحاديث الكبار راجيا أن يكتشف ما يدور في أفئدتهم، وإذا ما مر يهودي إسكندري اتفاقا من الناصرة، فتكلم عن مكتبة الإسكندرية العظيمة وحكمائها المعاصرين، أنصت له وعلق بذهنه ما في كلامه من طريف المعاني. ومن المحتمل أن سمع يونانيا يحدث عن نبي وثني كان يعظ القوم في الشارع أيام ازدهار أثينة وعظمتها، فيضع الصانع السوقي فوق المعبد والمدرسة فيقول: «من يجد في معرفة نفسه يعمل الصالحات على الدوام فيصبح سعيدا.» فأمور مثل هذه تقرع ذهن ذلك الفتى؛ فيستنبط منها أغرب النتائج.
بدا ذلك الفتى ثابتا رابط الجأش حينما قيل بمقت المشركين، وازدراء الرومان، ورأى غليان شعور الغرور في بني قومه، فجالت في خاطره الأسئلة الآتية: أيعني حب الله لنا كرهه للآخرين؟ أنحن مبرءون من العيوب حتى نضع أنفسنا فوق الآخرين؟ وما أهمية ملك الفنيقيين لجبل الكرمل وملك فيليبس بن هيرودس لشمال بحيرة طبرية؟ وما احتياجنا إلى المدن والجبال ما كنا شعب الله المختار؟ ألا يكفينا التصرف في الهيكل؟ وما ضرر فرض الرومان علينا ضرائب ومكوسا؟ وما ضرر نقص ثروات الأغنياء ما وجد الناس ما يأكلونه في نهاية الأمر؟ وما هي علاقة مملكة إسرائيل بملكوت الله؟ وما اضطرار صادوق ويهوذا إلى أسلحة المشركين في مستودع صفوري ما ابتغيا ملكوت الرب؟ •••
अज्ञात पृष्ठ