أما العابد المتطهر، المؤمن الصوفي، الزاهد الساجد، الغارق في حبه العظيم، والمحبة على قدر المحبوب، إذا استغرق الصوفي في حبه فنسي الوجود، وغاب عن الشهود، ونسي نفسه، ولم ير إلا الحبيب العظيم، ولم يشاهد في الألوان والصور الكونية إلا الخالق المحبوب؛ فهو زنديق وهو متفلسف! وهو هاتف بالحلول! وداع إلى وحدة الوجود! والأمر أيسر وأهون من هذا، ما هناك إلا المحب والمحبوب.
إنهم لقوم عمرهم النور الإلهي الأسنى؛ فتعلقت أبصارهم به ورفرفت أرواحهم حوله، وذهلت عقولهم من التجلي والمشاهدة، فما رأوا في الوجود سواه. تعالى الله.
إنهم بعين حبهم وشوقهم ليرون الله في كل شيء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
ووحدة الوجود، وفكرة الحلول فكرة إلحادية قديمة، عريقة في العبادات الهندية والبوذية ، وخلاصتها: أن أصحابها انقسموا إلى فريقين: فريق يرى الله - سبحانه - روحا، ويرى العالم جسما لذلك الروح، وأن الإنسان إذا صفا وتطهر، سما وارتفع فالتصق بالروح التي هي الله، ففني فيها فذاق السعادة الكبرى.
وفريق يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها، غير وجود الله؛ فكل شيء هو الله، والله هو كل شيء، أي: إن الله - سبحانه - يتجلى تجليا حقيقيا في كل شيء في الكون بذاته، فلا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد الصور تعددا حقيقيا واقعيا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددا في حقيقة الإنسان.
وهي سفسطة، لا يقبلها منطق ولا عقل ولا شرع، سفسطة تذهب بالشرائع والأديان، وتنال من الجلال والكمال الواجب لله - سبحانه، وتبطل الجزاء والعقاب والجنة والنار، والحياة الأخروية، كما تبطل الحدود بين الخالق والمخلوق، فتجعل الخلق والخالق شيئا واحدا.
تلك هي خلاصة فكرة وحدة الوجود، التي قذف بها القدامى من خصوم المتصوفة رجال الحب الإلهي، متخذين من حب المتصوفة لربهم تكأة ومقعدا لهذا الاتهام.
ثم جاء بعض رجال الاستشراق، الذين أغرموا أكبر الغرام بتجريح الثقافة الإسلامية والفكرة المحمدية، بتجريح رجالها والطعن في علمائها؛ فغمسوا أقلامهم في محراب المتصوفة، ولبسوا ثوب العلم بالإسلام والدفاع عنه؛ فرموا المتصوفة بهذا الإفك، والذي تولى كبره منهم هو: «جولد تسهير»، هذا اليهودي المفكر، الذي فكر وفكر، ثم فكر وقدر، فألهم أن إخوان الصفا بشامخ علمهم، استمدوا فلسفتهم وفكرتهم من قصة الحمامة المطوقة، في كتاب كليلة ودمنة، ولا أجد لهذا الاكتشاف العظيم شبيها إلا أن تقول مثلا: إن علماء القنبلة الذرية، قد استمدوا فكرتهم من قصة الزير سالم، أو الزناتي خليفة.
अज्ञात पृष्ठ