هذه قطرة من عالم الروح لديهم، ولسنا بمستطيعين أن نجمع بحار الأسرار في قطرة؛ فنظرة إلى ميسرة، عسى الله أن يوفقنا؛ فنخصص لها كتابا.
وتلك صورة مصغرة لمملكة المتصوفة، الذين يعيشون في ظلال الهدى والرضا، ويقتاتون بالأشواق والمحبة، المتصوفة الذين أحالوا الوجود إلى منابر ومنائر تهتف بالذكر والإيمان، وإلى محاريب للركوع والسجود، المتصوفة الذين يعيشون بيننا في مملكة من صفاء ونور، ابتدعوها لأنفسهم واعتصموا داخلها من تلك الغابة المسلحة؛ غابة الأحزان والهموم، والبغضاء والدماء والشهوات.
وبعد؛ فإن لهم لعادتهم وتقاليدهم ورموزهم التي يعرفونها، وإن لهم لنورا يتميزون به، وعطرا يعرفون بشذاه، ولا يعرف الشذى ولا يبصر النور إلا رجال الشذى والنور.
محيي الدين والحب الإلهي
الحب هو روح التصوف، وهو شعاره ودثاره، والحال المشترك بين المتصوفة جميعا، هو بداية البداية، كما أنه نهاية النهاية، وكأس المحبة لديهم تكمن فيها كل الأسرار والأنوار.
والحب عند المتصوفة، لا يمكن تحديده ولا تعريفه، ولا شرح حقائقه؛ وإنما يحد باللفظ فقط، ويعرف بالعرف والاصطلاح، أو كما يقول محيي الدين: «من حد الحب ما عرفه! ومن لم يذقه شربا ما عرفه! ومن قال: رويت منه ما عرفه! فالحب شرب بلا ري. قال بعض المحجوبين: شربت شربة فلم أظمأ بعدها أبدا. فقال أبو اليزيد: الرجل من يحسو البحار، ولسانه خارج على صدره من العطش.»
وهكذا هو الحب، حنين متجدد، وشوق مستمر، وظمأ دائم لا حد له ولا غاية؛ لأنه متجدد مع الأنفاس، فالشوق لا نهاية له؛ لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أتم وأوفى؛ ويقول الإمام الغزالي: «إن تبلغ الحالة تعرف ما هي.»
ولكل محب من هواه على قدر همته، أو على قدر موهبته. قال الشبلي: شربت أنا والحلاج من كأس واحدة؛ فصحوت وسكر، فسلك كل منا طريقا.
ولقد استمد المتصوفة أصول هذا الحب من نور القرآن الكريم؛ فالقرآن لمن يتدبره هتاف حار بالمحبة الإلهية، ودعوة صريحة إلى بذل كل طيبات الحياة ، في سبيل الفوز بمحبة الله.
ولقد كان الرسول - صلوات الله عليه - في مناجاته لربه يسأله الحب، ويسأله أن تكون قرة عينه في الصلاة؛ وهي أسمى مراتب الوصول والمحبة: «اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني في عبادتك.»
अज्ञात पृष्ठ