وهي نظرة إلى الفلسفة ما أحسبها لغير محيي الدين، وهي تحل إشكالا من مشاكل الفكر، كيف نشأت الفلسفة كيف تكونت علومها ؟ لقد كانت شريعة سماوية لإدريس - عليه السلام، ثم اختلف أتباعه بعد رفعه في ميراثهم، وتجادلوا وأولوا وحرفوا الكلم عن مواضعه؛ فسلمت علوم النظر، وتطرق الخطأ والضلال إلى ما وراء الطبيعة.
ولهذا يرى محيي الدين: أن ما سلم من علوم الفلسفة هو ميراث لكل صوفي؛ لأنه من المعارف الصحيحة، والمعارف الصحيحة ينالها المتصوفة بمنهجهم التعبدي القائم على الطاعة والتجرد، وبالفيوضات الربانية القائمة على المحبة والرضا.
والفلسفة الحقة: غايتها الحكمة، والحكمة ضالة كل مؤمن، وهدف كل صوفي، فالمتصوف الإسلامي هو صاحب العلم المحيط الشامل لجميع الحقائق، هو الفيلسوف العالمي الذي جمع المعارف كافة، وتميز بإيمان يمشي في مواكب الأنبياء، وهدى الرسل، ورضاء الله ومحبته.
مملكة التصوف
مملكة التصوف، أو عالم الأنفاس، مملكة أشبه بالأحلام الجميلة، أو الأماني الحلوة، التي يتصورها الأصفياء من رجال الفكر عن العالم السعيد، أو المدينة الفاضلة، التي يعيش الخيال على ضفافها، مرحا طروبا في آفاق من النور والإشراق، لا مس فيها من ألم، ولا لغوب فيها من شقاء؛ وإنما عبادة وذكر وصفاء، وطهارة ومحبة وإخاء.
وتلك المملكة الروحية قد ينكرها الماديون، الذين استعبدوا للحياة؛ فأذلتهم واتخذتهم مطايا لشهواتها، وعبيدا لأباطيلها.
وقد يخاصمها الجهلاء الذين خدعتهم أنفسهم، فظنوا بالصوفية ظن السوء، حتى حسبوها هذه العمائم المكورة، واللحى المرسلة، والمسابح ذات البهجة والحركة.
وقد يسخر منها المتعالمون، الذين يرمون الصوفية بالزور من القول، والإثم من اللحن، فهم متهمون لديهم: تارة بالتحلل والانحلال، وتارة بالضعف والهوان.
وقد يلمزها أهل السفسطة الذين يمضغون الحقد، ويقتاتون بالموجدة، والذين يتعبدون بالجدل، ويعيشون في محاريبه.
قد تنكرها تلك الطوائف، ولكنها رغم أمانيهم مملكة مشرقة بالرحمة، محلاة بالطهارة، سعيدة بالعبادة، منيرة بالمحبة، مؤمنة عابدة عن يقين ومشاهدة، آملة بربها أبدا، متهجدة في محاريبه، تسمر وتتغنى بلحن أنسه، وأغاريد حمده، وآيات نعمه، وسبحات وجهه التي أشرقت بها السموات والأرض، إنهم ليعيشون في دنيا لا نعرفها، دنيا أطلقت فيها الأرواح من قيودها، وتحررت من أثقالها؛ فانطلقت ترفرف حول الملأ الأعلى، وتحوم حول العرش وسدرة المنتهى.
अज्ञात पृष्ठ