كل ما سواه فهو عن جوده فائض، وعدله الباسط له والقابض، أكمل صنع العالم وأبدعه؛ حين أوجده واخترعه، لا شريك له في ملكه، ولا مدبر معه في ملكه، إن أنعم فنعم فذلك فضله.
وإن أبلى فعذب فذلك عدله، لم يتصرف في ملك غيره فينسب إلى الجور والحيف، ولا يتوجه عليه لسواه حكم، فيتصف بالجزع لذلك والخوف، كل ما سواه تحت سلطان قهره، ومتصرف عن إرادته وأمره؛ فهو الملهم نفوس المكلفين التقوى والفجور، وهو المتجاوز عن سيئات من شاء، والآخذ بها من شاء، هنا وفي يوم النشور، لا يحكم عدله في فضله، ولا فضله في عدله، أخرج العالم قبضتين وأوجد لهم منزلتين، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي. ولم يعترض عليه معترض هناك؛ إذ لا موجود كان ثم سواه، فالكل تحت تصريف أسمائه، فقبضة تحت أسماء بلائه، وقبضة تحت أسماء آلائه، ولو أراد - سبحانه - أن يكون العالم كله سعيدا لكان، أو شقيا لما كان من ذلك في شأن؛ لكنه - سبحانه - لم يرد فكان كما أراد؛ فمنهم الشقي والسعيد، هنا وفي يوم الميعاد لا سبيل إلى تبديل ما حكم عليه القديم، وقد قال - تعالى - في الصلاة: هي خمس وهي خمسون، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، لتصرفي في ملكي وإنفاذ مشيئتي في ملكي؛ وذلك لحقيقة عميت عنها الأبصار والبصائر، ولم تعثر عليها الأفكار ولا الضمائر إلا بوهب إلهي وجود رحماني لمن اعتنى الله به من عباده، وسبق له ذلك بحضرة إشهاده، فعلم حين أعلم أن الألوهة أعطت هذا التقسيم، وأنه من رقائق القديم، فسبحان من لا فاعل سواه، ولا موجود لنفسه إلا إياه! والله خلقكم وما تعملون، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين».
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
يقول كلود فاريرا، أحد مؤرخي فرنسا وأدبائها: إن هزيمة العرب في بواتيه، قد أخرت المدينة الغربية ثمانية قرون.
ويستطيع كلود فاريرا أيضا أن يقول: إن فتح العرب لإسبانيا، والتقاء أوروبا بالحضارة الإسلامية في الأندلس هو الذي غير مجرى التاريخ الأوروبي، وهو الذي بعث أوروبا ووضع أقدامها على الطريق العريض، الذي ذهب بها إلى حضارتها العلمية الحديثة.
لقد كانت المعاهد العلمية الإسلامية في الأندلس، هي المنارات التي ترسل الهدى والنور إلى أرجاء أوروبا، وهي المناهل العذبة التي هرع إليها رجال الطليعة الأوروبية، ليتزودوا من معارفها ويقتبسوا من نورها، ثم يعودون إلى بلادهم مبشرين ومنذرين وداعين إلى العلم والفكر الإسلامي. يقول «جونس» المؤرخ المعاصر لفولتير: لقد كانت تعاليم ابن رشد هي الراية التي يتقاتل حولها الأحرار من رجال الفكر الأوروبي، وكانت كتب الرازي وابن سينا هي القمم العالية في معاهد الطب ومدارس العلم في إيطاليا وفرنسا.
بل أعظم من هذا في الدلالة وأعجب: أن النهضة الدينية نفسها في أوروبا، تدين لمسلمي الأندلس عامة، ومتصوفة الأندلس خاصة، بالبعث والحياة.
لقد كانت المعارف الدينية في أوروبا طلاسم وأحجية وأسرارا، تظللها أردية الرهبان المقدسة، وتحتكرها طوائفهم أصحاب القسوة العالمية، معارف مظللة لا تقبل جدلا ولا حوارا، ولا تطيق علما، ولا ترضى منطقا، بل تسخر كل ما ترى لأهوائها ونزواتها، متعالية مترفعة لا تعلل ولا ترضى أن يسألها إنسان عما تفعل.
وكان رجالها يبيعون الجنة، ويهبون الفردوس الأعلى، لكل من يدفع مالا، أو يرضي شهوة، أو يعين على مآرب من مآرب السياسة والهوى.
ثم نظرت أوروبا بعين الإجلال والدهشة إلى المعارف الدينية الإسلامية في الأندلس، وهي ثروة مباحة لكل قاصد، ومنهل يتدفق لكل راغب، وساحة للآراء، ومنتدى للمناطقة، ومجالا لكل صوال وقوال؛ فلا أسرار ولا أقنعة، ولا لاهوت مخبوء تحت أردية الكهان والرهبان، محاط بالأسرار والظلمات، بل معارف وعلوم تساهم في أحداث الحياة، وتشرح مواقف العقول ومعضلات الفكر، وتلين لكل مجتهد، وتفتح صدرها لكل متفنن مبتكر، وتهب نورها بالقسط لكل مؤمن.
अज्ञात पृष्ठ