صلى الله عليه وسلم : «بينكما ما بين كلمتيكما.» فالإنفاق سبب استخلاف الأرزاق من الرزاق في الدنيا والآخرة، فكل من أمسك فهو لله متهم وعلى ماله معتمد، وكانت ثقته بدرهمه أعظم من ثقته بربه، وكان هذا طعنا في إيمانه، نسأل الله العافية، فعليك بالإنفاق في الشدة والرخاء، ولا تخف ولا تفزع من الفقر فبئس الرجل! كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إلا من قال بماله هكذا وهكذا يمينا وشمالا.» والله موف لك ما وعدك شئت أم أبيت، وشاء العالم أو أبى، فما هلك سخي قط.
محيي الدين ورسالة الأخلاق
فإذا انتهى محيي الدين من «كنه ما لا بد منه للمريد» اتجه إلى أبناء الأمة الإسلامية كافة، بل إلى بني الإنسان في كل زمان ومكان، يرسم لهم الأفق الأعلى للأخلاق ، مبينا أن الإنسان إذا تجرد من التحلي بها؛ فقد فقد نفسه، وأضاع حياته، وانحرف عن أول واجباته الإنسانية.
يقول محيي الدين:
1 «اعلم أن الإنسان من بين سائر الحيوان ذو فكر وتمييز، وهو أبدا يحب من الأمور أفضلها، ومن المراتب أشرفها، ومن المقتنيات أنفسها، إذا لم يعدل عن التميز في اختياره، ولم يغلبه هواه في اتباع أغراضه، وأولى ما اختاره الإنسان لنفسه ولم يقف دون بلوغ غايته، ولم يرض بالتقصير عن نهاية تمامه وكماله، ومن تمام الإنسان وكماله: أن يكون مرتاضا بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ومتنزها عن مساويها ومقابحها، آخذا في جميع أحواله بقوانين الفضائل، عادلا في كل أفعاله عن طريق الرذائل، فإذا كان ذلك كان واجبا على الإنسان أن يجعل قصده اكتساب كل شيمة سليمة من المعائب، ويصرف همته إلى اقتناء كل خلق كريم خالص من الشوائب، وأن يبذل جهده في اجتناب كل خصلة مكروهة مروية، ويستفرغ وسعه في إطراح كل خلة مذمومة دنية، حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله، ويباهي بحق أهل السؤدد والفخر، ويلحق بالذرى من درجات النباهة والمجد.
إلا أن المبتدي بطلب هذه المرتبة، والراغب في بلوغ هذه المنزلة، ربما خفيت عليه الخلال المستحسنة التي يعنيه تحريها، ولم تتميز له من المستقبحة التي غرضه توقيها، فمن أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولا نبين فيه ما الخلق؟ وما علته؟ وكم أنواعه وأقسامه؟ وما المرضي منها المغبوط صاحبه والمتخلق به؟ وما المشنو منها الممقوت فاعله والمتوسم به؟ ليسترشد بذلك من كانت همته تسمو إلى مباراة أهل الفضل، ونفسه أبية تنبو عن مساواة أهل الدناءة والنقص، وتدل أيضا على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه والتدرب به، وتنكب المذموم منها وتجنبه حتى يصير المرتاض به ديدنا وعادة وسجية وطبعا، ليهتدي به من نشأ على الأخلاق السيئة وألفها، وجرى على العادات الردية وأنس بها، ونصف أيضا الإنسان التام المهذب الأخلاق، والمحيط بجميع المناقب الجميلة، وطريقته التي يصل بها إلى التمام، وتحفظ عليه الكمال، ليشتاق إلى صورته من تشوق إلى المرتبة العليا، ويحن إلى احتذاء سيرته من استشرف إلى الغاية القصوى، وقد ينتبه بما نذكره من كانت له عيوب قد اشتبهت عليه وهو مع ذلك يظهر أنه في غاية الكمال.»
ثم يقول: «والخلق هو حال النفس بها يعقل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك بالرياضة.»
ويأخذ بعد ذلك في بيان أنواع الأخلاق الفاضلة موضحا وشارحا لكل فضيلة، وقد جمعها فبلغت لديه أكثر من سبعين فضيلة ومحمدة، هي جماع مكارم الأخلاق.
ولقد استطاع محيي الدين أن يضفي على كل صفة خلقية من روحه ومن وجدانه ما جعل كلماته الأخلاقية تنبض بالحياة والأشواق، واستطاع أن يبث في شرحه دستوره الخلقي الرحب الآفاق، الشامل لكل الدقائق والرقائق.
अज्ञात पृष्ठ