صداقة وحب
شلب إذن هي الإمارة التي اختارها المعتضد لابنه المعتمد، بلد ابن عمار ومهبط رأسه، ومكان تعلمه، ومغنى شبابه، ومصدر فقره، وأيام شقائه، لقد علم ابن عمار أن المعتمد راحل إلى شلب ليكون بها أميرا، هو يعلم أن المعتمد لم يعد يطيق الحياة من غيره، فهو إذن راحل مع المعتمد وما أطيب هذا! سوف يدخل شلبا هذه المرة وهو الصديق الأول لأميرها، ومن يعلم أي غد ينتظره هناك؟ فقد أصبح الغد ينتظره دائما بالخير.
وسافر المعتمد إلى شلب، وسافر في صحبته ابن عمار، وأقبل المعتمد على إمارته كارها، وحاول أن يصرف أمورها، ولكن أي أمور تلك التي يراد به أن يراودها؟ إنه شاعر، لماذا لا يريدون أن يفهموا هذا؟ إنه شاعر يحب شعره أما الإمارة فإنها مشقة سوف يتحملها في حينها. إن أحدا لا يريد أن يفهم عنه هذا إلا صديقه الأثير ابن عمار، هو وحده الذي يعلم ما يعتمل بنفسه. وهكذا يقبل المعتمد على شئون الإمارة إقبالا خيرا منه الإحجام، فما يكاد يقطع في أمر حتى يهرع إلى ابن عمار ويتناشدان، ثم هو يضيق بتلك الفترة الوجيزة التي يبت فيها في أمور الحكم، فهو يطلب إلى ابن عمار أن يجلس معه حين تعرض عليه الأمور فيفعل ابن عمار متثاقلا أو مظهرا للتثاقل، مخفيا للرغبة العنيفة في هذه الجلسة، متحرقا شوقا إليها في بعيد نفسه. ويجلس ابن عمار وتعرض الأمور فيسكت بعض الحين، ولكن المعتمد لا يريد أن يراه ساكتا فهو يلتفت إليه ليشركه في الحديث إشراك المجاملة؛ فما كان ليدري عنه خبرة في غير الشعر. يلتفت المعتمد إلى ابن عمار يطلب منه رأيا عابرا فإذا ابن عمار ينبثق متفجرا، وإذا هو ثاقب النظرة خبير بدقائق ما يقول؛ فإنها بلدته وإنه ابن عمار ذلك الرجل الذي دار على قصور الملوك فرأى وفهم ما رأى، ثم هو حليف الطريق الطويل فما أكثر ما خلا به وبحماره هذا الطريق، فكان يفكر ويمحص ويتعمق الأمور حتى يبلغ أعماقها، وهو يقرأ فيصل إلى أغوار ما يقرأ؛ فما هو إذن بالشاعر الهاذر الذي يمد يده ليثنيها إلى فمه فلا يفكر في غير مد وانثناء، وما هو بالذي يغبى عن فهم الأمور الجلائل فقد عاصرها مشاهدا، وإن تكن الحياة النكدة لم تتح له أن يعاصرها عنصرا فيها، فها هو ذا المعتمد ينتقم له من تلك الحياة ويوسع لخبرته بالتفاتته تلك، وها هو ذا يتدفق في تبصر ويرشد في خبرة ويهدي في مران، والمعتمد يستمع عاجبا معجبا وقد وسع ما بين هدبيه، فما دار له بخلد أن ابن عمار يفهم شيئا غير الشعر وغير تلك الأحاديث الطلية التي كان يترسل فيها، ولكن ها هو ذا يتضح عن رجل مارس السياسة ومارسته، فليكن صديق الشعر هو هو صديق السياسة، وما أجمل أن يكون هذا الصديق الدائم ابن عمار!
ولكن ابن عمار الذي سعى إلى صداقة المعتمد وإلى مجالس شعره لا يطيب له أن يشارك هذا المعتمد في الإمارة، وقد كان يعلم أن إبعاد المعتمد عن شئون الإمارة أمر ما أيسره، ولكنه يتعجل ولا يطيق الانتظار أكثر مما انتظر.
لا يطول التفكير بابن عمار فهو يعلم أن المعتمد عازف عن شئون الإمارة وهو يعلم أنه يحب الشعر ومجالس النساء، فما أسرع ما يعقد ابن عمار هذه المجالس وما أجمل ما ينضدها! فيقبل عليها المعتمد لا يفيق، ويتظاهر ابن عمار أنه مقبل معه، وتملأ هذه المجالس وقت المعتمد فهو يترك شئون الإمارة شيئا فشيئا لابن عمار حتى يستقل بها لا يشاركه في ذلك المعتمد، بل إن المعتمد ليغتبط بهذا التوفيق الذي هيأه الله له في ابن عمار فجعل منه شاعرا فذا ومنظما عبقريا للجلسات الممتعة، ثم شاء تبارك وتعالى أن يتوج هذا كله بخبرة نابغة في السياسة وشئون الحكم.
وتسير الحياة طيبة للصديقين، فأما الأمير فيمرح مع الشعراء والحسان، وأما الشاعر فيصرف شئون الإمارة وينظر في كل شئونها كبر هذا الشأن أو صغر، ولكنه مع هذا يفكر في أمره وأمر المعتمد فيجد نفسه هو السيد بغير لقب وبغير وظيفة رسمية؛ فإن وظيفة شاعر الأمير لم تكن في يوم من الأيام منفذا إلى شئون الحكم، لا بد إذن من وظيفة، ولم لا وقد أصبح المعتمد خطرة منه؟ ولم يكن من دأب ابن عمار أن يقف تفكيره عند التفكير أبدا، بل إنه دائما يتبع الفكر بعمل.
وجلس ابن عمار إلى المعتمد وامتلك ابن عمار عنان الحديث ودار به ولاب، حتى انتهى إلى الإمارة فهو يذكر للمعتمد ما يشقى به فيها، ثم هو يتكلم مترسلا مظهرا للمعتمد أنه لا يقصد إلى غير الترسل في الكلام، فيعرض إلى المخالفات التي تقع من صغار الموظفين وكيف أنه لا يملك أن يردهم عنها، ويفهم المعتمد مرمى الحديث وهدفه فلا يصبح الصباح إلا وابن عمار قد أصبح وزير المعتمد في إمارة شلب.
هكذا أصبح ابن عمار في بلدته، بلدته تلك التي لفظته شابا ، ثم أقفلت أبوابها دونه كلما حاول أن يلجأ إليها، لقد صار فيها وزيرا، وزيرها الذي يحمل وحده عبئها فلا يعرف أميرها من أمرها أمرا، غير أن ابن عمار هو المتصرف فيها.
هيه ابن عمار! ما أحسب أيامك الخالية أتاحت لك أن تتخيل هذا الذي تمرح فيه اليوم من سعادة، فهل تقف بك آمالك ابن عمار عند حد تنتهي إليه؟ أم رأيت من الأيام لينا فأنت توغل غير ناكص؟ شأنك والأيام ابن عمار، شأنك وإياها.
ظلت هكذا حياة الأمير ووزيره الشاعر، ولم يكن المعتمد رغم ما هيأه له ابن عمار من حسان وشعراء ليستطيع أن يتخلى عن جلسات صديقه؛ فهو يتوق إليه منفردا يتطارحان الشعر أو يجيزانه، فإن ضاقا بالقصر وشلب خرجا متنكرين إلى إشبيلية يمرحان فيها ما وسعهما المرح، وقد كانت المدينة مهيأة لهذا المرح أحسن تهيئة، حتى إذا ضاقا بصخبها خرجا إلى «مرج القطة» على ضفاف الوادي الكبير، فيجلس ابن عمار إلى المعتمد في هذا المنفسح العريض من الخضرة يحف به نهر صاف يكمل الجمال الذي يشيع في الروض.
अज्ञात पृष्ठ