وفي الإصحاح السادس عشر: «أما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني، وليس أحد منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قلت هذا قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة. أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر؛ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا، وأما على دينونة؛ فلأن رئيس هذا العالم قد دين.»
وفي إنجيل لوقا وردت الكلمة التي شبهت لقراء الأناجيل اسم الشيطان باسم «لوسيفر» حامل النور، كما كان يدعى بعد عصر الأناجيل بعدة قرون؛ ففي الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا يقول السيد المسيح للتلاميذ السبعين الذين أرسلهم للبشارة من قبله: «إني رأيت الشيطان ساقطا كالبرق من السماء.»
أما غاية ما وصف به إبليس من السطوة، فهو قول بول الرسول عنه في رسالة كورنثوس الثانية: «إن كان إنجيلنا مكتوما، فإنما هو مكتوم في الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين.»
وإنما كان بولس يذكر سطوة الشيطان وهو يرى أمامه معابد «مترا» في كل مكان يرحل إليه، ويسمع أتباع مترا يذكرون إله الظلام وإله هذه الدنيا السفلى التي تخضع لسلطانه، وتنتظر نور الخلاص بعد رجعة «مترا» بالظفر والغلبة في الدهر الموعود، وقد أخذ العبريون تقسيم الدهر إلى دهرين من أقوال أهل بابل وفارس، ولم يكن من شأن المسيحيين الأوائل أن يهونوا من شرور إله الظلام في هذه الدنيا، بل كانوا يسبقون أتباع «مترا» إلى تعظيم الفارق بين النور الإلهي والظلمة الشيطانية، وتسمية بولس للشيطان بإله هذا الدهر إنما هو من قبيل تحقير الدهر الذي يعبدونه فيه. وتلك عادة من عادات العبريين الأقدمين في الزراية بأدعياء الربوبية عند الأمم الأخرى، فكان من أساليبهم في إنكار ربوبية بعل أن يسموه - على رأي الكثيرين من الشراح - رب الذباب، ورب الزبالة؛ ومن ثم اسم بعلزبوب وبعلزبول.
وتمتزج بأقوال بولس على الدوام تعبيرات مجازية تدل على إلمامه بالأساليب اليونانية في التعبيرات، وسماعه بالآراء التي كانت تنقل عن حكماء اليونان، ويسوقونها مرة في معرض الطبيعيات، ومرة في معرض الدينيات، ومن ذاك قوله عن إبليس في رسالة أفسس: «إنه رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» ومنه قوله في تلك الرسالة: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكان إبليس؛ فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع أحفاد الشر الروحية في السماوات.»
ويرى اللاهوتيون المحدثون أن أقوال بولس هنا تحتمل الإشارة إلى الطبيعيات اليونانية، كما تحتمل الإشارة إلى التراث العبري في مسائل الروحانية، قال الدكتور هوجو راهنر “Hugo Rahner”
في بحثه عن الروح الأرضي والروح الإلهي في علم اللاهوت القديم: «إن عبارة رئيس سلطان الهواء في كلام بولس الرسول تثير أسئلة شتى في التاريخ الديني، ينبغي أن نعرض لها إن أردنا أن نفهم آراء آباء الكنيسة الرفيعة في طبيعة الأرض الروحية الشيطانية ... أفلا يقع في أخلادنا أننا نسمع هنا نغمة مألوفة؟ أليس تصور الروح الشيطاني سلطانا على الطبقة المظلمة من الهواء صدى واضحا من نظريات أفلاطون وزينقراط وبلوتارك؟
إن التشابه لظاهر، وإن البحوث التي عرضت لهذه المسألة لكثيرة منوعة، ولكن الأرجح على ما يبدو أن بولس الرسول إنما اتخذ هذه الصورة من الروحانيات اليهودية المتأخرة، فقد كان من العقائد الشائعة بين اليهود أن الأرواح الشريرة لا تهبط إلى ما دون الهواء المحيط بالأرض، وأنها من هذا المهبط تباشر عمل الشر عليها. وإنما ترمز هذه الصورة في ذهن بولس الرسول إلى خصومة أصبحت خلقية نفسية، ولم تبق كما كانت قبل ذلك كونية طبيعية، فالعالم عنده في أساسه إنما هو الإنسان، وهذا الإنسان الذي يوصف بأنه أرضي، وأنه موثق إلى الأرض، وأنه خاطئ؛ خليق أن يخضع لسلطان أرواح الشر عليه، ولكنه قادر كذلك على أن يرتفع بنفسه من الظلام إلى النور، ومن الشيطان إلى الله.» •••
ومعلوم أن كتاب «العهد الجديد» هو مرجع المسيحية الأكبر الذي تتفق الكنائس على اعتماده في العقائد الجوهرية، ولكن العهد الجديد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: «أولها» الأناجيل، و«ثانيها» أقوال الرسل، و«ثالثها» أقوال الصحابة والرواة المتصلين بالرسل، وترتيبها كما جاء في شروح بعض اللاهوتيين المحدثين أن الأناجيل وحي غير مصحوب بتفسير، وأن أقوال الرسل وحي وتفسير، وأن أقوال صحابتهم تفسير بغير وحي. وقد جاءت في أقوال الرسل وما بعدها تفسيرات في المنزلة الأولى من مأثورات العقيدة المسيحية، يتقدمها جميعا ما جاء عن خطيئة آدم وعن تكفير الخطيئة، وعن الحية والشيطان، ولم تسبق الإشارة إليه في الأناجيل.
ففي هذه المراجع أول إشارة إلى تسمية الحية بالشيطان، كما جاء في الإصحاح الثاني عشر من أعمال الرسل، حيث يذكر التنين ويقال عنه: «إنه التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم».
अज्ञात पृष्ठ