وبعض طوائف الثنوية يعتقدون أن الجسد كله شر، ولكن الأرواح العلوية أرادت أن تحارب جنود الظلام فأنبأها الإله الأعظم أنها لا تقوى على حربها بغير أجساد كأجسادها، فإن شاءت بقيت على صفائها، وإن شاءت لبست أجسادا من المادة فكافحتها بسلاحها. وهذه هي الأرواح العلوية التي بقي الأكثرون منهم على صفائهم، ورانت الغواية الجسدية على بعضهم فغلبتهم الفتن والشهوات.
ويعتقد فريق من الثنوية أن آدم من خلقة الشيطان، ولكن الأرواح العلوية تعالج أن تصلحه، وتقوم أوده، وتستخلصه من وهدة الطين بقبس من النور تدسه له في وجدانه، فيأنف الحياة الأرضية، ويتطلع ببصيرته إلى السماء.
وجاءت المانوية فانتشرت في بقاع الدولة الرومانية بعد ظهور المسيحية، ونافستها أشد منافسة في آسيا الصغرى وبلاد الروم من آسيا وأوروبة، فامتلأت معاهد الدينيين بالكلام عن الشيطان، واستصوب أناس من آباء الكنيسة أن ينتزعوا شعائر عباد النور، فجعلوا يوم الأحد يوم الأسبوع المختار؛ لأنه كان مخصصا لعبادة الشمس،
4
وجعلوا اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر يوم الميلاد؛ لأنه كان يوما ينصرف فيه المسيحيون إلى سهرات الوثنيين، لاعتقاد هؤلاء أنه اليوم الذي يقصر فيه الليل ويطول النهار، فهو هزيمة لإله الظلمة، ونصر لإله النور.
وقبل المسيحية نظر اليونان الوثنيون إلى أصول العقيدة الثنوية، فحولوا أسطورة زروان الذي ولد له «أورمزد» إلى أسطورة كرونوس، الذي ولد له زيوس رب الأرباب وسيد الملأ الأعلى. فبحق يهتم الباحثون الدينيون بهذا الميراث العريق من بلاد بين النهرين؛ لأنه سابقة لا تنقطع عما تلاها من أطوار الإيمان بالخير والشر، وبالقوة الكونية التي نزهتها الأديان الكتابية بعد ذلك في عقيدة الوحدانية، ودونها القوة الكونية التي تمثل فيها الشر مخلوقا متمردا على الله. •••
وفي الوعي الديني عوامل ذات بال لا تحسب من الفرائض والشعائر، ولكنها تحسب من الخواطر التي تخامر النفس وتعمل عملها في تقويم الأخلاق المصطبغة بصبغة الإيمان.
من هذه الخواطر التي تستكثر على اللاهوت القديم خاطران يتخللان كتب الديانة «الزردشتية» من أقدم عصورها، أولهما أن الشر «شك»، وأنه نبت في الكون لأول مرة حين تساءل زروان بينه وبين نفسه: وما جدوى كل هذا التكوين وكل هذا التقدير؟ والخاطر الآخر أن الشر كذب، كما جاء في قصة «يامه» التي تضمنت أقدم الخواطر عن السقوط والخلاص، فقد دعاه أورمزد لحراسة الحق فاستعفاه؛ لعظم الأمانة وإشفاقه من العجز عنها، فأرسله إلى الأرض وخوله ما سأله من الغلبة على الموت، فامتلأت الأرض بالأحياء التي لا تفنى، وامتلأت نفس «يامه» بالخيلاء، فسولت له أن يناظر الإله بهذه العصمة، وأن يكاذب نفسه بخيلائه، فلحق به الشر، وجاءه الموت مع الشر، فكان ذلك من جناية «يامه» على نفسه وعلى زمرته تسللت إلى الوجود من مدخل الباطل، وهو أصل جميع الشرور.
هذان الخاطران يتخللان الكتب الزردشتية من أقدم العصور، ولم يدخلا العقائد التالية من طريق الفكر والتأمل، بل دخلاها من طريق الأشكال والرموز التي يلم بها الحس قبل التفكير فيها.
الشيطان في حضارة اليونان
अज्ञात पृष्ठ