فنحن نرجع إلى «بابل» لفهم التطور في معنى «الخطيئة» مميزا من معنى الذنب أو العيب أو الرذيلة أو الجريمة.
ونحن نرجع إلى «فارس» لفهم التطور في مذهب «الثنوية» أو النزاع بين سلطان الخير وسلطان الشر في الأكوان العليا والسفلى، ومنها الكرة الأرضية. •••
إذا كنا نعرف للحضارة المصرية صبغة نلتمسها في جميع مظاهرها، وهي صبغة الحكم والشريعة ونظام الدولة، فالصبغة التي تغلب على حضارة بابل - على هذا النحو - هي صبغة التنجيم والأزياج الفلكية. وسنرى أن علماء المقارنة بين الأديان لم يلتفتوا إلى هذه الناحية في علاقتها بفهم المقصود من معنى «الخطيئة»، مع أنها - على ما نرى - لا تفهم حق فهمها ما لم تبتدئ من هذه البداية.
لقد عرف البابليون رصد الكواكب من أقدم الأزمنة، وعلقوا مصائر الناس وأقدارهم بسعودها ونحوسها، فلا يسعد أحدهم بنعمة السماء ولا يشقى بغضبها إلا وهو في الحالتين عرضة للقضاء المسطور في أزياج النجوم.
وقد نشأ عندهم علم الفلك بحسابه وتقديره مصاحبا لعلم التنجيم بخرافاته وأوهامه، ولم تكن كل هذه الخرافات والأوهام خداعا من الكهان السحرة، بل كانت عندهم عقيدة يصدقونها ويمزجونها بالقصص والألغاز التي يدركها العامة، ولا يدركون ما وراءها.
وما من قصة بلغتنا من أرض بابل في تاريخها القديم إلا وهي قصة من قصص المناظرة بين الأرض والنجوم في شكل من الأشكال التي يفتن فيها الحس والخيال.
فربة الأرض «تيامات» تتحدى السماء فتستعين بالطوافين على حكم أقطارها، وتخلق من جوفها الحيات والحيتان لتوطيد سلطانها، وبرج بابل يقيمه المتمردون من البشر ليرتفعوا به إلى مناجزة الأرباب في سماواتها، وكل ثورة من ثورات الأساطير المزعومة فإنما هي في مدلولها خروج من الأرض على إرادة السماء، لا تلبث السماء أن تكبحه وتروضه على الطاعة الواجبة، وعلى التسليم لها بحقوق الصلاة والقربان.
فلم يكن للبابلي من هم في سره وعلانيته إلا أن يستطلع إرادة النجوم، ويخرج بالإذعان لها وموافقة هواها من عداد «المنحوسين» إلى عداد السعداء، ويسأل العارفين بالتنجيم: ماذا تريد النجوم؟ وماذا كتب لي في كتابها المرقوم؟ فما كان رضى للنجوم فهو الفلاح والنجاح، وما لم يكن رضى لها فهو الخيبة والضياع.
لم يكن الأمر هنا أمر الحسن والقبيح، أو أمر الصلاح والفساد، أو أمر الاستقامة والإجرام، كلا ... وإنما هو أمر الرضى من كواكب السماء بما يوافق المسطور المكتوب، أو أمر الغضب الذي يحيق بمن يخالف قضاء الكواكب في مجراه.
والفارق بين الأمرين إنما هو الفارق بين الموفق السعيد والخائب المنحوس، أو بين من يسلك سبيل السلامة ومن يقترف حماقة الخلاف بغير رجاء. •••
अज्ञात पृष्ठ