وقد تنفجر الهوية ضد التغريب وكل مظاهر التحديث، فتتمسك بأكثر الأشكال والرموز تشددا؛ كالنقاب للمرأة، واللحى للرجال، والفصل بين الرجال والنساء، ومنع قيادة السيارات، والسياحة، وإغلاق الملاهي في الفنادق والمحلات العامة.
وإذا كان الوحي قد نزل من أعلى إلى أدنى، وكان له أسباب نزول، الواقع يسأل والوحي يجيب
يسألونك عن الخمر ،
يسألونك عن المحيض ،
يسألونك عن الأنفال ، فكيف يقلب الإنسان جدل السؤال والجواب ويجعل الوحي مطلقا بلا مكان؟ وإذا كان الحكم الشرعي يتغير بتغير الزمان، كلما تغير الزمان تغير الحكم من الأخف إلى الأثقل أو من الأثقل إلى الأخف، وهو النسخ، فكيف يقلب الإنسان الوحي ويطلقه ويجعله مطلقا خارج الزمان، ثابتا لا يتغير، مهما تغير الزمان؟ تعظيم وتقديس وتمجيد الوحي بإخراجه خارج الزمان والمكان؛ هو اغتراب للوحي وقضاء على الهوية الإنسانية المتفاعلة مع الوجود الإنساني. والوحي نزل بلغة معينة؛ اللغة العربية، في ثقافة معينة؛ الثقافة العربية، وفي بيئة وأعراف معينة؛ البيئة والأعراف العربية، وفي سياق ديني معين سابق؛ يهودي ونصراني، وفي إطار حضاري معين؛ يوناني روماني فارسي حبشي، فكيف يفهم خارج السياق؟ هذا كله اغتراب معرفي وسلوكي يقضي على الهوية النظرية والعملية للوجود الإنساني.
الهوية هي تطابق الحاضر مع الحاضر، عيش اللحظة الراهنة، الإدراك المباشر للنفس والرؤية المباشرة للواقع. هي تفاعل مع اللحظة التي هي انتقال من الماضي إلى الحاضر. أما التطابق مع الماضي فهو السلفية بعينها التي ترى روحها ووجودها في لحظة ماضية، بعد أن تغترب عن الحاضر، فالسلف خير من الخلف، و«خير القرون قرني». ولم يترك القدماء للمحدثين شيئا. وهو الغالب على المجتمع الإسلامي في مجمله حاليا؛ لبعد مسافة الحاضر عن الماضي، وصعوبة التحقق مع الحاضر بالفعل، وسهولة التحقق مع الماضي بالخيال. وفي كلتا الحالتين الهوية اغتراب؛ اغتراب اليائسين واغتراب الحالمين، والمتفائلون بينهما أقرب إلى التحقق منهم إلى الإحباط. العجز عن التفاعل مع الحاضر يولد الإحباط، وتعويض الحاضر السالب بالمستقبل الموجب؛ قفز إليه وعدم تحديد مسار له.
وكما يكون الهروب إلى الماضي يكون القفز إلى المستقبل في صور المعاد وأساطير فتن آخر الزمان، فالموت ليس له الكلمة الأخيرة، والظلم مؤقت في الحياة الدنيا، والشر عابر سبيل وإن بدا منتصرا ودائما. هناك حياة أخرى تنتصر فيها الحياة على الموت، والعدل على الظلم، والحق على الباطل، ويأخذ الضعيف والمسكين والشريد وابن السبيل حقه. هو نوع من ميتافيزيقا الأمل التي تكون لها الغلبة على واقع اليأس والإحباط، وتبدأ الحياة بمجرد الموت في القبر؛ بنعيم القبر وعذابه وسؤال الملكين، وتبدأ كل صور ثنائيات الخير والشر بعد القيامة؛ الثواب والعقاب، الجنة والنار ...
وتبدأ الحياة المستقبلية بفتن آخر الزمان وعلامات الساعة: الصراع بين يأجوج ومأجوج، قبيلتان، معسكران، قوتان عظيمتان، وتدمير كل منهما الأخرى، ظهور المسيح الدجال أعور العين؛ ليفسد عقائد الناس، ويغير مذاهبهم، ويبدل قيمهم حتى تمحى الأخلاق من السلوك. فيظهر له المسيح الحقيقي؛ رمز الحق والخير، ويتخلص منه، ويخلص الناس من شره. فالمسيح الحق لا يتبدل كلامه، ولا ينتحل أحد اسمه، ولا يزيف أحد عقيدته؛ التوحيد.
لذلك كانت الهوية هي التاريخ، والتطابق مع التاريخ، ومعرفة في أي مرحلة من التاريخ تعيش الأمة، فلا تعيش مرحلة مضت، ولا تعيش مرحلة قادمة، ولا تتوقف عن السير في المرحلة الراهنة؛ انتظارا لمسار الأقدار. ليست الهوية حقيقة مجردة ثابتة دائمة صورية؛ كما يظن الفلاسفة المثاليون، بل هي من صنع الأفراد والشعوب، هوية تاريخية.
رابعا: الهوية والاغتراب السياسي
अज्ञात पृष्ठ