مُقَدّمَة الْمُؤلف
قَالَ العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْموصِلِي الشَّافِعِي غفر الله لَهُ ولوالديه وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين
١ - الْحَمد لله الْآمِر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى الناهي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي موعظة للألباء الدَّاعِي إِلَى مغْفرَة مِنْهُ ورضوان يَقُول (هَل من دَاع فيلبى هَل من مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ هَل من سَائل فنجيبه)
البادي بالنوال قبل السُّؤَال فكم ستر عَيْبا وَغفر ذَنبا وكشف كربا
1 / 51
أَحْمَده على نعمه وأنعم بِحَمْدِهِ وأقصد كرمه ونكرم بِقَصْدِهِ
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة لَا تنبغي لأحد من بعده
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ وشرك الشّرك قد نصب على مُرَاد المُرَاد وعماد التَّوْحِيد من عناد أهل التَّثْلِيث قد وهى أوكاد وسوق شجر الطغيان فِي بسوق وسوق حبر الْإِيمَان فِي كساد فَلم يزل يَدْعُو إِلَى الله بجد واجتهاد حَتَّى انتشرت كلمة الْحق فِي أقطار الْبِلَاد وسطعت أنوار الْهِدَايَة فِي أفكار الْعباد
صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار صَلَاة دائمة آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار أما بعد
٢ - فقد ندبني من وَجب إِجَابَة سُؤَاله وتعينت تَلْبِيَة مقاله لما لَهُ عَليّ من الْإِحْسَان الوافر وَالْبر الْمُتَوَاتر أَن أكتب لَهُ من الْعلم مَا يَلِيق بِحَالهِ ويبلغه من خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة نِهَايَة آماله وَكَانَ ذَلِك إِحْسَان ظن مِنْهُ بالفقير وإحسان الظَّن سَبَب للخير الْكثير فَرَأَيْت أَن أكتب لَهُ مَا ورد فِي فضل الْعدْل وَالْإِحْسَان فَإِنَّهُ متصف بهما مَعَ مَا فِيهِ من الْفَضَائِل الحسان وأقص فِي ضمن ذَلِك
1 / 52
السياسة الشَّرْعِيَّة مِمَّا فِيهِ مصلحَة الرَّاعِي والرعية منبها على أَن من لزم مَا أوردهُ فِيهِ من السياسة كَانَت دولته مَحْفُوظَة وَهِي بِعَين الْعِنَايَة من الله الْكَرِيم ملحوظة رَجَاء أَن تنْتَفع الدولة الزاهرة بِهَذَا التَّأْلِيف وَأَن يقوم لَهُم بِالنَّصِيحَةِ الجالبة لكل خلق شرِيف فَإِنَّهُ الْأمين الْمَأْمُون والثقة الْعَفِيف يسره الله لليسرى وَجعله من الَّذين لَهُم فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا الْبُشْرَى وَفِي الْأُخْرَى
1 / 53
الْفَصْل الأول الْعدْل
تَعْرِيفه
٣ - الْعدْل هُوَ الحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى
دَلِيله فِي الْكتاب وَالسّنة
٤ - قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾
1 / 55
فَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى وَصَحَّ عَن رَسُول الله ﷺ فقد اجْتمعت فِيهِ هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة الظُّلم وَالْكفْر والفسوق
٥ - وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله إِمَام عَادل وشاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَرجل قلبه مُعَلّق بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجْتمعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ وَرجل دَعَتْهُ امْرَأَة ذَات منصب وجمال فَقَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه وَرجل ذكر الله خَالِيا فَفَاضَتْ عَيناهُ)
٦ - وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا) رَوَاهُ مُسلم
1 / 56
وَعَن عَوْف بن مَالك قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول (خِيَار ائمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عَلَيْهِم وَيصلونَ عَلَيْكُم وشرار أئمتكم الَّذين يبغضونكم وتبغضونهم وتلعنونهم ويلعنونكم) قُلْنَا يَا رَسُول الله أَفلا ننابذهم بِالسَّيْفِ قَالَ (لَا مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة) رَوَاهُ مُسلم وَمعنى تصلونَ عَلَيْهِم تدعون لَهُم
٧ - وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عِيَاض بن حمَار قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول (أهل الْجنَّة ثَلَاثَة ذُو سُلْطَان مقسط متصدق موفق وَرجل رَحِيم رَقِيق الْقلب لكل ذِي قربى وَمُسلم وعفيف متعفف ذُو عِيَال)
٨ - وَعَن عبد الله بن أبي أوفى قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (إِن الله تَعَالَى مَعَ القَاضِي مَا لم يجر فَإِذا جَار تخلى عَنهُ وَلَزِمَه الشَّيْطَان) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَقَالَ (فَإِذا
1 / 57
جَار وَكله إِلَى نَفسه)
٩ - وَعَن أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (إِن أحب النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأقربهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام عَادل وَإِن أبْغض النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأشدهم عذَابا إِمَام جَائِر) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث غَرِيب
١٠ - وَعَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (يَوْم من إِمَام عَادل أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة وحد يُقَام فِي الأَرْض أزكى فِيهَا من مطر أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) يَعْنِي سنة أخرجه محب الدّين الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه
1 / 58
١١ - وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله ﷺ قَالَ (أَرْبَعَة يبغضهم الله البياع الحلاف وَالْفَقِير المختال وَالشَّيْخ الزَّانِي وَالْإِمَام الجائر) أخرجه أَبُو حَاتِم
١٢ - وَعَن ابْن عمر قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول (كلكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَن رَعيته وَالْإِمَام رَاع ومسؤول عَن رَعيته وَالرجل رَاع فِي أَهله ومسؤول عَن رَعيته وَالْمَرْأَة فِي بَيت زَوجهَا راعية وَهِي مسؤولة عَن رعيتها وَالْخَادِم فِي بَيت سَيّده رَاع وَهُوَ مسؤول عَن رَعيته) قَالَ سَمِعت هَؤُلَاءِ عَن النَّبِي ﷺ وأحسب النَّبِي ﷺ قَالَ (وَالرجل فِي مَال أَبِيه رَاع وَهُوَ مسؤول عَن رَعيته فكلكم رَاع وكل مسؤول عَن رَعيته) أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
1 / 59
١٣ - وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (مَا من أَمِير عشرَة إِلَّا يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولا لَا يفكه إِلَّا عدله وَمَا من رجل تعلم الْقُرْآن ثمَّ نَسيَه إِلَّا لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة أَجْذم)
وَفِي رِوَايَة (إِلَّا جِيءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَدَاهُ إِلَى عُنُقه حَتَّى يُطلقهُ الْحق أَو يوبقه) أخرجه أَحْمد
١٤ - وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن عَائِذ بن عَمْرو وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ دخل على عبيد الله بن زِيَاد فَقَالَ أَي بني إِنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول (إِن شَرّ الرعاء الحطمة
1 / 60
فإياك أَن تكون مِنْهُم) فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْت من نخالة أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فَقَالَ وَهل كَانَت لَهُم نخالة إِنَّمَا النخالة بعدهمْ وَفِي غَيرهم) أخرجه أَحْمد وَمُسلم
١٥ - وَعَن ابْن عمر أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ (لَا يسترعي الله عبدا رعية قلت أَو كثرت إِلَّا سَأَلَهُ الله عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة هَل أَقَامَ فيهم أَمر الله أم أضاعه حَتَّى يسْأَله عَن أهل بَيته خَاصَّة) أخرجه أَحْمد
١٦ - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (من طلب قَضَاء الْمُسلمين حَتَّى يَنَالهُ ثمَّ غلب عدله جوره فَلهُ الْجنَّة وَمن غلب جوره عدله فَلهُ النَّار) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
١٧ - وَعَن بُرَيْدَة عَن النَّبِي ﷺ قَالَ (الْقُضَاة ثَلَاثَة وَاحِد فِي الْجنَّة وَاثْنَانِ فِي النَّار فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق فَقضى بِهِ وَرجل عرف الْحق فجار فِي الحكم فَهُوَ فِي النَّار وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن
1 / 61
مَاجَه
نَبِي الله دَاوُد ﵇ وَالْعدْل
١٨ - وَقد قَالَ الله تَعَالَى ﴿يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى﴾ الْآيَة
قيل معنى ذَلِك إِذا حضر بَين يَديك خصمان فَلَا تتمنى أَن يكون الْحق مَعَ الَّذِي ميلك إِلَيْهِ خَاصَّة وبهذه الْخصْلَة سلب سُلَيْمَان من دَاوُد ملكه
قَالَ ابْن عَبَّاس كَانَ الَّذِي أصَاب سُلَيْمَان بن دَاوُد أَن نَاسا من أهل جَرَادَة امْرَأَته وَكَانَت من أكْرم نِسَائِهِ عَلَيْهِ تحاكموا إِلَيْهِ مَعَ غَيرهم فَأحب أَن يكون الْحق لأهل جَرَادَة فَيَقْضِي لَهُم فَعُوقِبَ حَيْثُ لم يكن هَوَاهُ فيهم وَاحِدًا
آثَار الْعدْل
١٩ - وَقد ضمن الله النَّصْر لمن نصر الله وَرَسُوله بِالْغَيْبِ وَهُوَ
1 / 62
الْقيام بِالْعَدْلِ قَالَ الله تَعَالَى ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ الْآيَة ثمَّ إِنَّه تَعَالَى أوضح شَرَائِط لنصر الْمُلُوك وَشرط عَلَيْهِم شَرَائِط كَمَا ترى فَمَا تضعضعت قواعدهم أَو ظهر عَلَيْهِم عَدو أَو اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِم الْأُمُور إِلَّا لإخلالهم بالشرائط الْمَأْخُوذَة عَلَيْهِم أَو بَعْضهَا وصلاحهم وفلاحهم بِإِقَامَة الْمِيزَان بِالْقِسْطِ الَّذِي شَرعه الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ وركوب سَبِيل الْحق وَالْعدْل الَّذِي قَامَت بِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَنصر الْمَظْلُوم وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم
عُقُوبَة الإِمَام الجائر
٢٠ - وَقَالَ طَاوُوس لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك هَل تَدْرِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ سُلَيْمَان قل فَقَالَ طَاوُوس أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من أشركه الله فِي ملكه فجار فِي حكمه فاستلقى سُلَيْمَان على سَرِيره وَهُوَ يبكي فَمَا زَالَ يبكي حَتَّى قَامَ عَنهُ جُلَسَاؤُهُ
1 / 63
نصب السُّلْطَان لدفع الظُّلم
٢١ - وَقد امتن الله على عباده بنصبه السُّلْطَان فِي الأَرْض ليدفع الظُّلم عَن الْمَظْلُوم قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض﴾ يَعْنِي لَوْلَا أَن الله أَقَامَ السُّلْطَان فِي الأَرْض يدْفع الْقوي عَن الضَّعِيف وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم لأهْلك الْقوي الضَّعِيف وتواثب الْخلق بَعضهم على بعض فَلَا يَنْتَظِم لَهُم حَال فتفسد الأَرْض وَمن عَلَيْهَا فَإِذا كَانَ السُّلْطَان جائرا زَاد الْفساد فَسَادًا
فضل الْقَضَاء بِالْحَقِّ
٢٢ - قَالَ مَسْرُوق لِأَن أَقْْضِي يَوْمًا بِالْحَقِّ أحب إِلَيّ من أَن أغزو سنة فِي سَبِيل الله
تصلح الْبِلَاد والعباد بالسلطان الْعَادِل
٢٣ - وكما أَنه لَيْسَ فَوق رُتْبَة السُّلْطَان الْعَادِل رُتْبَة كَذَلِك لَيْسَ فَوق رُتْبَة السُّلْطَان الشرير رُتْبَة لشره لِأَن شَره يعم وكما أَن بالسلطان الْعَادِل تصلح الْبِلَاد والعباد كَذَلِك بالسلطان الجائر تفْسد الْبِلَاد والعباد وتقترف الْمعاصِي والآثام وَكَذَلِكَ
1 / 64
السُّلْطَان إِذا عدل انْتَشَر الْعدْل فِي الرّعية فأقاموا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وتعاطوا الْحق فِيمَا بَينهم ولزموا قوانين الْعدْل فَمَاتَ الْبَاطِل وَذَهَبت رسوم الْجور فَأرْسلت السَّمَاء غيثها وأخرجت الأَرْض بركاتها ونمت تجاراتهم وزكت زُرُوعهمْ وتناسلت أنعامهم وَدرت أَرْزَاقهم ورخصت أسعارهم فواسى الْبَخِيل وَأفضل الْكَرِيم وقضيت الْحُقُوق وأعيرت المواعين وتهادوا فضول الْأَطْعِمَة والتحف فهان كل الحطام لكثرته وذل بعد عزته فتماسكت على النَّاس مروءاتهم وحفظت عَلَيْهِم أديانهم وَبِهَذَا يتَبَيَّن لَك أَن الْوَالِي مأجور على مَا يتعاطاه من إِقَامَة الْعدْل وعَلى مَا يتعاطاه النَّاس بِسَبَبِهِ
فَسَاد الْبِلَاد والعباد بالسلطان الجائر
٢٤ - وَإِذا جَار السُّلْطَان انْتَشَر الْجور فِي الْبِلَاد وَعم الْعباد فرقت أديانهم واضمحلت مروءاتهم وقست قُلُوبهم وفشت فيهم الْمعاصِي وَذَهَبت أماناتهم فضعفت النُّفُوس وقنطت الْقُلُوب فضعفوا عَن إِقَامَة الْحق فتعاطوا الْبَاطِل وبخسوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وروجوا البهرج فَرفعت مِنْهُم الْبركَة وَأَمْسَكت السَّمَاء غيثها وَلم تخرج الأَرْض زَرعهَا ونباتها فَقل فِي أَيْديهم الحطام فقنطوا وأمسكوا الْفضل الْمَوْجُود وتناجزوا على الْمَفْقُود فمنعوا الزكوات الْمَفْرُوضَة وبخلوا بالمواساة المسنونة
1 / 65
وقبضوا أَيْديهم عَن المكارم وفشت فِيهِ الْأَيْمَان الكاذبة والختل فِي البيع وَالشِّرَاء وَالْمَكْر والحيل فِي الْقَضَاء والاقتضاء فيظل أحدهم عَارِيا من محَاسِن دينه متجردا من جِلْبَاب مروءته وَمن عَاشَ كَذَلِك فبطن الأَرْض خير لَهُ من ظهرهَا
٢٥ - قَالَ وهب بن مُنَبّه إِذا عمل الْوَالِي بالجور أَو هم بِهِ أَدخل الله النَّقْص فِي أهل مَمْلَكَته من الزَّرْع والضرع وكل شَيْء وَكَذَلِكَ إِذا هم بِالْعَدْلِ أَو عمل بِهِ أَدخل الله الْبركَة فِي أهل مَمْلَكَته
٢٦ - قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز تهْلك الْعَامَّة بذنب الْخَاصَّة وَلَا تهْلك الْخَاصَّة بِعَمَل الْعَامَّة والخاصة هم الْوُلَاة وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة﴾
صَلَاح الْحَاكِم صَلَاح الْأمة
٢٧ - وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور إِنِّي لأعْلم رجلا إِن صلح صلحت الْأمة قَالَ وَمن هُوَ قَالَ أَنْت
٢٨ - قَالَ ابْن عَبَّاس ﵄ إِن ملكا من الْمُلُوك خرج يسير فِي مَمْلَكَته مستخفيا فَنزل على رجل لَهُ بقرة فراحت فحلبت لَهُ
1 / 66
وزن ثَلَاثِينَ بقرة فَعجب الْملك من ذَلِك وَحدث نَفسه بأخذها فَلَمَّا راحت عَلَيْهِ من الْغَد حلبت على النّصْف فَقَالَ الْملك مَا بَال حلابها انْتقصَ أرعيت فِي غير مرعاها بالْأَمْس فَقَالَ لَا وَلَكِن أَظن أَن ملكنا هم بأخذها فنقص لَبنهَا فَإِن الْملك إِذا ظلم أَو هم بظُلْم ذهبت الْبركَة فعاهد الله سُبْحَانَهُ فِي نَفسه أَلا يَأْخُذهَا وراحت من الْغَد فحلبت حلاب ثَلَاثِينَ بقرة فَتَابَ الْملك وَعَاهد ربه ليعدلن مَا بَقِي
٢٩ - وَمن الْمَشْهُور بِأَرْض الْمغرب أَن السُّلْطَان بلغه أَن امْرَأَة لَهَا حديقة فِيهَا الْقصب الحلو وَأَن القصبة الْوَاحِدَة مِنْهَا تعصر قدحا فعزم على أَخذهَا مِنْهَا ثمَّ أَتَاهَا وسألها عَن ذَلِك فَقَالَت نعم ثمَّ إِنَّهَا عصرت قَصَبَة فَلم تعصر نصف قدح فَقَالَ لَهَا أَيْن الَّذِي كَانَ يُقَال فَقَالَت هُوَ الَّذِي بلغك إِلَّا أَن يكون السُّلْطَان عزم على أَخذهَا مني فارتفعت الْبركَة مِنْهَا فَتَابَ السُّلْطَان وأخلص نِيَّته لله تَعَالَى أَلا يَأْخُذهَا أبدا ثمَّ أمرهَا فعصرت قَصَبَة فَجَاءَت ملْء قدح
٣٠ - قَالَ صَاحب سراج الْمُلُوك وَشهِدت أَنا بالإسكندرية وَالصَّيْد بالخليج مُطلق للرعية والسمك فِيهِ يغلب المَاء كَثْرَة ويصيده الْأَطْفَال بالخرق ثمَّ حجره الْوَالِي وَمنع النَّاس من صَيْده فَذهب السّمك حَتَّى لَا تكَاد تُوجد مِنْهُ إِلَّا الْوَاحِدَة بعد الْوَاحِدَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا
1 / 67
قَالَ وَهَكَذَا تتعدى سرائر الْمُلُوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إِلَى الرّعية إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر
النَّاس تبع لملوكهم
٣١ - قَالَ وروى أَصْحَاب التواريخ فِي كتبهمْ أَن النَّاس كَانُوا إِذا أَصْبحُوا فِي أَيَّام الْحجَّاج يتسألون من قتل البارحة وَمن صلب وَمن جلد وَمن قطع وَفِي أَمْثَال ذَلِك
٣٢ - وَكَانَ الْوَلِيد صَاحب ضيَاع وَاتخذ مصانع فَكَانَ النَّاس يتسألون فِي زَمَانه عَن الْبُنيان والمصانع والضياع وشق الْأَنْهَار وغرس الْأَشْجَار
٣٣ - وَلما ولي سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَكَانَ صَاحب نِكَاح وَطَعَام فَكَانَ النَّاس يتحدثون فِي الْأَطْعِمَة الرفيعة ويتخذونها ويتوسعون فِي الْأَنْكِحَة والسراري ويعمرون مجَالِسهمْ بِذكر ذَلِك
٣٤ - وَلما ولي عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ النَّاس يتسألون فِي زَمَانه كم تحفظ من الْقُرْآن وَكم وردك وَكم يحفظ فلَان وَكم يَصُوم وأمثال ذَلِك
الْعدْل قوام الْملك ودوام الدول
٣٥ - وَاعْلَم أَن الْعدْل قوام الْملك ودوام الدول وأس كل مملكة
1 / 68
سَوَاء كَانَت نبوية أَو اصطلاحية
الْإِحْسَان
٣٦ - وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالْعَدْلِ ثمَّ علم سُبْحَانَهُ أَنه لَيْسَ كل النُّفُوس تصلح على الْعدْل بل تطلب الْإِحْسَان وَهُوَ فَوق الْعدْل فَقَالَ ﴿إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان﴾
فَلَو وسع الْخلق الْعدْل لما قرن الله بِهِ الْإِحْسَان فَمن لم يصلح حَتَّى يُزَاد على الْعدْل كَيفَ يصلح إِذا لم يبلغ بِهِ الْعدْل
٣٧ - وَحكى ابْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره حِكَايَة مَعْنَاهَا أَنه شكي على بعض الْعمَّال عِنْد خَليفَة زَمَانه فكشف عَن سيرته فَلم يُوجد عَلَيْهِ شَيْء من الْجور فَقَالَ الْخَلِيفَة لَا أعزله عَنْكُم وَهُوَ عَادل فَقَالَ لَهُ بعض النَّاس صدق أَمِير الْمُؤمنِينَ هُوَ عَادل وَلَكِن لم يحسن وَقد أَمر الله بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان فَعَزله عَنْهُم
1 / 69
قَالَ عَليّ بن أبي طَالب ﵁ إِمَام عَادل خير من مطر وابل وَأسد حطوم خير من سُلْطَان ظلوم وسلطان ظلوم خير من فتْنَة تدوم
٣٨ - وَقَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِمَا وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء الْعدْل وَالرَّحْمَة يحرزان الْملك
الْعدْل أساس لسَائِر الأساسات
٣٩ - وَاتفقَ حكماء الْعَرَب والعجم على هَذِه الْكَلِمَات فَقَالُوا الْملك بِنَاء والجند أساسه فَإِذا قوي الأساس دَامَ الْبناء وَإِذا ضعف الأساس انهار الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بالجند وَلَا جند إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا بجباية وَلَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل فَصَارَ الْعدْل أساسا لسَائِر الأساسات
1 / 70
الْفَصْل الثَّانِي
الطّرق إِلَى الْعدْل
٤٠ - وَمن أَرَادَ من وُلَاة الْأُمُور الْعدْل الَّذِي أَمر الله بِهِ والتوصل إِلَيْهِ فليسلك مَا نأمره بِهِ من الطّرق يحفظ عَلَيْهِ ملكه فِي الدُّنْيَا وَيكون سَببا إِلَى الْملك الْحق فِي الدَّار الْأُخْرَى
حَملَة الْعلم
٤١ - وَجُمْلَة القَوْل فِيهِ أَن يجمع السُّلْطَان إِلَى نَفسه حَملَة الْعلم الَّذين هم حفاظه ورعاته وفقهاؤه فهم الأدلاء على الله والقائمون بِأَمْر الله والحافظون لحدود الله والناصحون لعباد الله
٤٢ - وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ الدّين النَّصِيحَة قُلْنَا لمن قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم
٤٣ - فيتخذ الْعلمَاء شعارا وَالصَّالِحِينَ دثارا فتدور المملكة على نصائح الْعلمَاء ودعوات الصلحاء فياسعد ملك يَدُور
بَين هَاتين الخصلتين لقد قَامَ عوده وأورق عموده وَكَيف لَا وَقد قرنهم الله حِين الشَّهَادَة بالوحدانية بِالْمَلَائِكَةِ المقربين فَقَالَ تَعَالَى ﴿شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ﴾ فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِنَفسِهِ ثمَّ ثنى بملائكته ثمَّ ثلث بالعلماء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَفِي تعظيمهم وتوقيرهم وتقريبهم امْتِثَال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ واستمالة لقلوب الرّعية فَلَا يقطع أمرا دونهم وَلَا يفصل أمرا وَلَا حكما إِلَّا بمشاورتهم لِأَنَّهُ فِي ملك الله يحكم وَفِي رَعيته يتَصَرَّف وَفِي شَرِيعَته يقطع ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه ٤٤ - وَأَقل الْوَاجِبَات على السُّلْطَان أَن ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه أَلَيْسَ إِذا خَالف واليه أمره ومارسم بِهِ لَهُ من الْأَحْكَام عَزله وعاقبه وَلم يَأْمَن سطوته وَإِذا امتثل أوامره وانْتهى عَن مناهيه حل عِنْده مَحل الرِّضَا فواعجبا مِمَّن يغْضب على واليه إِذا خَالفه ثمَّ لَا يخَاف سطوة ربه عَلَيْهِ إِذا خَالفه خِصَال ورد الشَّرْع بهَا فِيهَا نظام الْملك والدول ٤٥ - وَقد ورد الشَّرْع بِبَيَان خِصَال فِيهَا نظام الْملك والدول وَهِي
بَين هَاتين الخصلتين لقد قَامَ عوده وأورق عموده وَكَيف لَا وَقد قرنهم الله حِين الشَّهَادَة بالوحدانية بِالْمَلَائِكَةِ المقربين فَقَالَ تَعَالَى ﴿شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ﴾ فَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِنَفسِهِ ثمَّ ثنى بملائكته ثمَّ ثلث بالعلماء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَفِي تعظيمهم وتوقيرهم وتقريبهم امْتِثَال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ واستمالة لقلوب الرّعية فَلَا يقطع أمرا دونهم وَلَا يفصل أمرا وَلَا حكما إِلَّا بمشاورتهم لِأَنَّهُ فِي ملك الله يحكم وَفِي رَعيته يتَصَرَّف وَفِي شَرِيعَته يقطع ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه ٤٤ - وَأَقل الْوَاجِبَات على السُّلْطَان أَن ينزل نَفسه مَعَ الله تَعَالَى منزلَة ولاته مَعَه أَلَيْسَ إِذا خَالف واليه أمره ومارسم بِهِ لَهُ من الْأَحْكَام عَزله وعاقبه وَلم يَأْمَن سطوته وَإِذا امتثل أوامره وانْتهى عَن مناهيه حل عِنْده مَحل الرِّضَا فواعجبا مِمَّن يغْضب على واليه إِذا خَالفه ثمَّ لَا يخَاف سطوة ربه عَلَيْهِ إِذا خَالفه خِصَال ورد الشَّرْع بهَا فِيهَا نظام الْملك والدول ٤٥ - وَقد ورد الشَّرْع بِبَيَان خِصَال فِيهَا نظام الْملك والدول وَهِي
1 / 71