مع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظي القبلي، تواضع العقل العربي على إلقاء تفاسير ميتافيزية، لما يجابهه من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم. خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تجارهم، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطن بتلك التفاسير، التي أدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو «الأساطير».
ولما كان المطر أهم الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيولا، تفاسير أسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة النجمية التي توافقت في الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحيانا ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دمرت بلادهم بسبب الأمطار العاصفة. فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الأسباب فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا أوامرها أو نواهيها. وهو ما روته العرب مثيلة عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوع بشأنه تفصيلا للفصول الأولى من كتب الأخبار والسير الإسلامية، وعلى سبيل المثال «تاريخ الرسل والملوك» للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرها الخاصة، والتي دفعتهم إلى ابتداع ألوان من الطقوس، قصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل، ويبدو أن ملاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابا ممطرا، أثر في تصور اصطناع حالة شبيهة، فكانوا يوقدون نارا تخرج مادتها دخانا شبيها بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار. ولأن البقر كان رمزا للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الأبقار ويصعدون بها المرتفعات، ويربطون في ذيولها مواد قابلة للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الأبقار مذعورة تثير الغبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة، وأثناء ذلك يضجون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببا للسقيا، وذلك إعمالا لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه.
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النزوع نحو توحد قومي ديني تحت ظل إله واحد ارتفع العرب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفه حاشية من الملائكة ويجلس على عرش محمول فوق أعناق فريق آخر من الملائكة، لذلك قدسوا السماء وأجرامها، والقسم بها، وبظواهرها، وحفوا بالقدسية كل ما تساقط من السماء بحسبانه قادما من ذلك المكان المقدس حيث العرش، فكان تقديس الأحجار النيزكية أحد نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا إلى الأفلاك أثرا عظيما في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقط الشهب يعني وقوع أحداث جلل، كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسية امتدت عند بعض القبائل إلى تأليه نجوم السماء، بينما اتجه البعض الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهن بنات الله، أو لهن علاقة بالله على الجملة في أكثر من شأن. وتعبر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكين هاروت وماروت وكيف أغوت الزهرة الغانية الملكين الورعين فارتكبا الخطيئة وعصيا الله خالق السماوات والأرض، وكيف تحولت تلك المرأة التي أغوت ملائكة السماء بدورها إلى كائن سماوي يتمثل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الأشخاص إلا سمات خارقة، نسبوها إليهم أحيانا انبهارا، وأحيانا تمجيدا. فهذا خالد بن سنان يطفئ النار التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رءوس تسيح فتهلك البلدان، ويبدو أنها كانت ذكرى بركان مدمر، لكنهم جعلوا للنار البركان رءوسا آكلة حاربها ابن سنان حتى أطفأها وردها إلى مقر الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتد الإعجاب به وبقوته حتى يقولوا إنه قتل الغول وأتى يحمل رأسه تحت إبطه، فأسموه «تأبط شرا». وهذا عنترة بن شداد يشد على الأعادي فيكسر رماح الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغزاة، حتى يتحول مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطل عربي قومي يحارب أعداء العرب بقواه الجبارة.
وذلك «سيف بن ذي يزن» يدخل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيتم التعتيم على استعانته بالفرس الذين يحتلون بلاده عوضا عن الأحباش، ليتم تصويره بطلا شعبيا عظيما يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحد الآتي. وكان الرب يمثل سيد القبيلة وسلفها ومعبودها ورمز عزتها وكبريائها، وكان تجمع تلك الأرباب في ضيافة الكعبة المكية، يعني مزيدا من الحضور التجاري لأتباع الأرباب، ومزيدا من المكاسب. فكان المحتوى الطبقي يسير نحو تفجير الشكل القبلي لصالح توحد القبائل جميعا، بتقارب مصالح الأثرياء من قبائل مختلفة، بحيث صار ممكنا رفض رب القبيلة وسيدها وسلفها المعبود لدى الفرد عند الشريحتين الاجتماعيتين، الأرستقراطية والمعدمة، فكانت الشريحة الأرستقراطية تنحو نحو التوحد المصلحي الذي احتاج أدلجة، أفرزت اعتقادا في إله واحد يرعى تلك المصالح، ولأنهم السادة والملأ والحكومة، فقد جاء إلههم الجديد في مرتبة تتفق ومكانتهم، ليصبح فوق آلهة الكعبة جميعا، وسيدا مطلقا للكون الذي أمسكوا عنان تجارته بأيديهم، وراعيا غائبا لمصالحهم.
अज्ञात पृष्ठ