ثم تعالوا إلى كلمة أخرى تدل على أجمل معنى هي قوله تعالى (ثم نخرجكم طفلا) من الآية الخامسة من سورة الحج ، لماذا لم يقل (أطفالا) ذلك ليؤكد لنا أن العالم كله مهما تكاثرت مواليده فهم عند الله طفل واحد ، وفي قدرته وتدبيره مولود واحد ، فلا يعني لله شيئا من اللغوب والإنشغال ولا قليلا من القلق والإهمال، بل كلهم برعاية الله في أحسن حال وكلهم بتدبيره ينمو ويصح ، من أقوى الرجال الى الضعيف والشيخ ولتأكيد هذا المعنى يقول الله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان 28 ولو أردنا إيراد الأمثلة لطالت العبارة ولكن الحر تكفيه الإشارة.وها نحن نواصل البحث في آيات الحج وكلماته بما يزيدنا إستنارة .
تذييل وبيان لمفردات الحج والمكان
كلمة البيت
هل المراد به تلك العمارة الصغيرة المربعة وسط المباني المستحدثة المحيطة بها؟؟ هذا ما يفهمه الناس ، وهذا ما شاع بين المفسرين ، ولكن هل هذا فهم صحيح يتفق مع القرآن المبين؟؟ تعالوا معي نتبين الآيات ولا بد أن نصل إلى معنى آخر يخالف فهم الأولين . البيت في اللغة أولا هو المكان الذي يؤمن للإنسان البيات في أمان ، والسكن باطمئنان ، فهو مأخوذ من البيات أي السكون ليلا فأطلق على كل مكان يؤمن الليل للإنسان بيتا ، فهو مصدر بات يبيت يقال بات يبيت بياتا ، ولهذا جاء قولة تعالى (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون) الأعراف 97 . ثم أطلق البيت بشكل موسع على كل مكان يضمن للإنسان الأمان والسلام في الأرض ولو في الليل أو النهار ولهذا قال الله لقوم صالح (وتنحتون الجبال بيوتا) الأعراف 74 (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) الشعراء 149 (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل 80 ، ومع هذا التحول في معنى البيت فقد تحول إلى معنى أوسع هو المنطقة أو المدينة أو القرية التي يسكنها الإنسان ولهذا قال الله عن النحل (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68 ، وليس المراد هنا إلا أن تتخذ الجبال والشجر بيوتا ومن ما يعمله لها الناس من المزارع والمواقع الواسعة ، إذن فليس المراد بالبيت هنا هو مكان الخلية الصغير للنحل ولكن مكان الإنطلاق والأمان والسلوك في الأماكن بإطمئنان . فالجبال الشامخة وما حولها قد تتخذها وتختارها لها بيوتا آمنه وقد تختار الأشجار والغابات الملتفة بيوتا تكون فيها منطلقة وكامنة وسالكة وآمنة .
وعلى هذا الأساس يقول الله لرسوله محمد وهو يخرج إلى بدر (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) الأنفال 5 ، فالمراد بالبيت هنا هو المدينة بأكملها لأنها أهله وأحبابه وأنصاره وأصحابه ولهذا قال له في آية أخرى عند خروجه إلى أحد (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121، وهكذا أطلق البيت على الأهل ثم المدينة بأكملها لأنها محببة إليه كأهله ومأمنه كبيته وإذا كان هذا في شأن النبي وحده وفي شأن النحل وحدها فكيف يكون فهمنا لمعنى البيت الذي هو للناس أجمعين. إنه لا بد أن يكون معناه مكانا كبيرا واسع الأبعاد ، له حدود معروفه متباعدة ، وعلى هذا الأساس نفهم أن البيت حين يطلق في الآيات المتعلقة بمكة لا يعني إلا المنطقة الحرام كلها ولا يعني إلا كل المواقع التي تقام فيها المناسك وتؤدى ،
فالبيت يطلق على ما يقع داخل حدود مواقيت الإحرام المعروفة للشامي واليماني والعراقي وسواها والمحددة في كتب الفقه فالبيت هو مكة وما حولها من المناطق الحرام ومن مشاعر الحج والإحرام .هكذا يجب أن نفهم البيت وهكذا يجب أن يكون معلوما لذوي الأفهام . فهو لا يعني البناية والحجرة الصغيرة التي تتوسط المباني المعدة للصلاة (المسماة بالحرم) ولا يعني أيضا المباني المستحدثة المحيطة لأنها تستحدث وتتوسع في كل زمان فلو أطلقنا البيت عليها لكان المعنى أن من هدم جدارا ووسع فكأنما هدم البيت الحرام ، وهذا غير صحيح ولصار المعنى أن من صلى قبل التوسع في المباني الحالية لم يصل في البيت الحرام وهذا غير صحيح ، إن البيت الحرام هو كل المنطقة الحرام وكل المشاعر الحرام المحددة المعالم منذ أقدم الأيام ومنذ آلاف الأعوام .
قد تسألون عن الدليل على ما أقول ،، وأنا أسألكم أولا :هل أنت أيها الحاج تنحر الهدي في المبنى الصغير المسمى الكعبة أو تحمله إليه؟؟ كلا إنما تنحره في منى وتحمله وتنحره هناك وإذا كان الأمر كذلك فاسمع ما يقول الله "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) الحج 33 ، أين هو البيت العتيق هل هو الكعبة الصغيرة إذن فقد سمى الله محل النحر وهو منى البيت العتيق ، يعني أنه من البيت العتيق.فللحاج أن ينتفع بالهدي ما دام سائر إلى مكة ثم إذا نحره فلا ينحره إلا في المحل المحدد للإحلال وهو منى والذي هو كائن بشكل جزء من (البيت) فإذا نحرت فيه فقد نحرت في البيت.. وبعد فهل في هذا بيان أم تريدون المزيد من البيان .ها أنذا أتلو عليكم قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37، فقل لي هل يريد إبراهيم بالإسكان لبعض ذريته عند البيت هذا المبنى الذي نراه الآن ؟؟ إذا كان يريد ذلك فلما قال (بواد غير ذي زرع) إذن فالإسكان كان في مكة كاملة التي هي محرمة ، بحدود معلمه ، وهي البيت المحرم الذي أراده إبراهيم. قد تقولون ألم يقل (عند بيتك) فمعنى هذا أن الإسكان كان عند أو قرب هذا المكان الصغير الذي نراه يتوسط العمران .ولكن كلمة عند لا تعني القرب ولكنها تعني الظرفية أي في بيتك المحرم لكنه استعمل كلمة عند ليؤكد اختلاطه بالمكان المحرم كله والتزامه به وحصر إقامته عليه (بواد غير ذي زرع) ولذلك فهو يسأل الله أن يرزق ذريته من الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ثم يعلل الإقامة بأنها ليقيموا الصلاة والصلاة هي الطاعة والالتزام بحرمة المقام. فلا يعتدون ولا يصطادون ولا يفسدون ولا يطلمون .ولا يريدون إلحادا لظلم ولا يتجاوزون ما هو محرم بل يتقون ويشكرون المنعم ويتطهرون ويطهرون الحرم وهكذا عهد الله إليه بما يدل على أن المراد بالبيت هو الحرم كله (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125، فهل المراد بالبيت هو المكان الصغير؟ أم المنطقة الحرام كلها إلى أطراف حدودها؟ إن الثاني هو المراد بلا شك والدليل عليه قوله للطائفين وهم الذي يطوفون عند الوصول إلى مكة والعاكفين وهم الذي يقفون في عرفات والركع والسجود وهما الذين يذكرون الله في منى أيام التشريق. وعلى هذا الأساس فإن علينا أن نفهم قول الله تعالى في سورة الحج (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) الحج 26 بأن المعنى : عرفنا لإبراهيم مكان البيت أو حددنا لإبراهيم مكان البيت لأن بوأ تعني أسكن لقوله تعالى (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) لكن حرف الجر "وهو اللام" في آية الحج (بوأنا لإبراهيم) ضمن الفعل معنى جديدا مضافا إلى معناه الأصلي ذلك المعنى الجديد هو(عرفنا أو حددنا) على أن الفعل قد يكون بمعنى مكناه إذا جاء بعده حرف الجر (في) مثل قوله تعالى لقوم صالح (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) الأعراف 74. أي مكنه في الأرض وعليه فإن آية الحج تعني (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) أي عرفناه حدود هذا البيت بحيث يكون ما بين هذه الحدود هو البيت الحرام ولهذا جاء بعدها : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26 ولا يمكن أن يكون المراد بالبيت هو المبنى الصغير لأن الطائفين والعاكفين والركع والسجود هم الذي يقودون مناسك الطواف والوقوف بعرفات والإقامة للصلاة والذكر والنحر في منى وهذه هي المشاعر الحرام ، أو هذه هي مكونات البيت الحرام .
وإذا تأكد هذا الفهم فإننا ندرك معنى آية البقرة التي يقول الله فيها : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125. فالمراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة لأنها هي المثابة وهي الأمن كاملة ، لا مجرد المبنى الصغير المربع المعروف ، وهو البناء الذي يتوسط المقامة حوله للصلاة والطواف.وإذا كنت يا أخي في ريب من هذا الفهم فاقرأ قوله تعالى بعده بقليل (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125 فهي تعني أن الأب وابنه قد عهد الله إليهما أن يطهرا المنطقة كاملة من كل ظلم وإلحاد ، إلا أنه استبدل بكلمة القائمين كلمة العاكفين وكلاهما تعني الواقفين بعرفات وإذا لم يكن كذلك فهو يعني والعاكفين والمقيمين في هذا البلد الأمين. ثم اقرأ بعد ذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126 ، فلقد أطلق كلمة (بلد) على البيت ، وهذا يدل على ما قلناه من أن المراد بالبيت هو المنطقة الحرام كاملة وإذا لم يكن كذلك فكيف يكون له أهل ولهم رزق وثمرات؟ هل يمكن أن يسكن الناس في المبنى الصغير (المكعب) وهل هم أهله وسكانه؟؟ ثم استمر معي في القراءة لنجد قوله تعالى في آية تدل على أن كلمة البيت أطلقت على المنطقة قبل رفع قواعد المبنى الصغير .. تلك الآية هي قوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 ، نعم إن إبراهيم بعد أن بوأ الله له مكان البيت وحدوده وعرفه بداية المنطقة الحرام ونهايتها من كل الجوانب . بدأ إبراهيم في بناء مركز يكون هو بعلم الله مركز الدائرة للبيت الحرام وللأرض كلها كما سيتضح ذلك فيما بعد.
فالمركز هذا أو مركز الدائرة هو الذي رفع إبراهيم قواعده لكنه ليس البيت ولكنه جزء من البيت ولهذا قال (القواعد من البيت) فأتى بحرف الجر (من) ولو كان هذا المبنى هو البيت لقال (قواعد البيت) بدون حرف من . وبعد فهل اقتنعت يا أخي أن المراد بالبيت في آيات القرآن الخاصة بمكة والحج هو المنطقة الحرام كاملة؟؟ لعلك قد اقتنعت أو قريب من الاقتناع وعلى هذا الأساس من الفهم لمعنى الكلمة أدعوك إلى الآية الهامة التي وردت في سورة آل عمران وهي قوله تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) آل عمران 96
نعم إن أول بيت وضع للناس هو هذا الذي ببكة مباتا ومأمنا ومثابة وقياما .ولهذا قال وضع والوضع لا يعني إلا البسط والتمهيد والمد والتسخير ولهذا قال في سورة الرحمن (والأرض وضعها للأنام) 10. أي بسطها ومهد، إذن فالمنطقة التي بمكة هي أول بيت وضع للناس.
अज्ञात पृष्ठ