وإذا فإن المتفكر يوقن بأن ربه هو المدبر وهو الذي يحيي ويميت ويحفظ ويقيت ، وهو العليم بحالك ، والمسير لشانك في اليقظة والمبيت والمقدر ذلك بلا تفويت ، وعليه فهو الذي يدعى ويرجى ويطاع ويخشى ويحمد ويعبد ، ويشكر ويقصد ، بلا واسطه ولا شريك ، ولا ند ولا شفيع ولا ولد ، فهو الله الواحد الأحد ، ولا يشركه في حكمه من أحد ولا يتخذ في ملكه وليا ولا عضد ، وكما اتضح لنا علمه بما نخفي وما نعلن على السواء ، وتدبيره لكل ما نعمله ونسعى له ، فإن الله يوضح لنا علمه بما يجري عليها من تغير الأحوال ، وأنه المدبر لما يطرأ علينا ، من نوم ويقظة ، وطفولة وكهولة ، وشباب وشيخوخة وموت وحياة ، فيقول في سورة الزمر (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42 هكذا يدعونا للتفكر ، فيما يحدث علينا من تغير ، لنعلم أنه هو المدبر فإن المتفكر في هذا ، يوقن أن الله هو الرب ، الذي يحمي ويقي ويميت ويحيي ، ويحفظ الأنفس في النوم ، ثم يطلقها لأجل مسمى في حفظه وتدبيره ، حتى ينقضي أجلها المسمى ، في هذه الدنيا ثم يتوفاها بالموت الذي ينقلها للحياة الأخرى ، ثم يحفظ عظامها وأجزائها في كتاب علمه وتدبيره ، فلا يخفى عليه شيء من الجزيئات ، ولا يفوته شيء من أصغر الذرات ، وعلى هذا الأساس وبناء على هذه المقدمة التي أوضحتها الآية الكريمة في سورة الزمر ، تأتي الآيات التالية لتسأل الناس فتقول (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الزمر 43 إنه سؤال تقدير ، ولكنه يطوى الاستنكار ، فلقد اتخذ الناس فعلا من دون الله شفعاء ، وظنوا أن هؤلاء الأرباب وهذه الأسباب تجديهم نفعا ، أو تملك للضر دفعا ، أو تعلم عن الناس ما يحتاجون فتجيب أو تدري بما يضمرون فتحكم ، كلا بل كل هذه الأسباب والأرباب لا تنفع ولا تضر ، ولا تحكم ولا تدري ولا تعلم ، ولهذا عقب السؤال بسؤال أهم ، لمن يفهم ، وهو قوله تعالى (قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) الزمر 43 أي كيف تتخذون من دون الله شفعاء ، يدعون أنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، فهل هم يعلمون ما لا يعلم ، وهو العليم بما تعلنون وبالسر واخفى أما هؤلاء الوسطاء والشفعاء ، المتخذون من دون الله فهم إما لا يعلمون شيئا إن كانوا يعقلون كالملائكة والأنبياء ، وسواهم في الناس كالطغاة الضالين، وإما لا يعقلون إن كانوا من الكواكب والنجوم ، أو الشمس والقمر ، أو سواهما مما عبده الناس بلا علم ولا هدى ، فكيف تتخذون من لا يعلم ولا يعقل شفيعا ، عند من يعلم ،وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ولا يفوته حال ولا شأن ، في كل حال وزمان ، وفي كل حين ومكان وفي ماضي الزمان ، وقادمها ، حتى بعث الناس وقيامها ، إذا فهو الذي يتخذ شفيعا ومرجعا ، وهو الذي يدفع به الضر ، ويجلب به النفع ولهذا فإن الله يفند قول وفعل المتخذين شفعاء سواه ، ويصوب لهم الطريق ، الذي فيه الحق والنجاة ، فيقول (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر 44
نعم له كل الأسباب ، وله كل التدبير ، وإليه تتجه القلوب والحياة ولله يقصد العالمون التقاة ، لأنهم يعلمون بأنه العليم بكل حال ، كما قال (له ملك السماوات والأرض) فهو المدبر والحاكم ،
وهو المسير العالم وهو المقدر لكل شيء بشكل دائم ، ثم ماذا بعد أن الذي يعلم ويدبر هو الذي يحكم ، وللجزاء يقرر ، ولهذا قال (ثم إليه ترجعون) الزمر 44 نعم إليه وحده مرجع الجميع ، فمن أين يكون بينه وبين خلقه شفيع وكيف للشفيع أن يعلم ما لا يعلمه وأنى يستطيع ،، إن هذا الذي يتخذ الشفعاء واهم غلطان ، يتبع الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا ، ويخبط في ظلمات ظلماء ، خبط دابة عشواء ، ولهذا فإنه يتمسك بالهباء ، ويطمئن إلى الهراء والافتراء ، ويفزع من ربه الحق الذي خلق وسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي يعلم السر واخفى وهذا من عجيب السلوك ، وأفضح العناد ، وهذا ما أنزله الله على هؤلاء الأغبياء فيقول (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر 45
فيا لغفلة المعتمد على غير ربه العلام ، والمستشفع بالظنون والأوهام إنه يطمئن إلى المخلوقات ، ويشمئز من الخلاق ، ويستبشر بالمظنونات ويقلق أمام ربه الحق ، إنه سلوك أحمق ، وهنا يتجه الخطاب إلى الرسول وإلى كل ذي عقل وفؤاد ، ليعلن لهم أن الحكم لله وحده بين العباد لأنه هو الخالق البديع ، وكل شيء إليه يعاد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 أتفهمون كيف التعبير (أنت تحكم بين عبادك) إنه حصر وقصر للحكم على الله وحده ، وله وحده الحكم بين عباده ، وكيفلا وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو مناط كل شيء وعليه وحده اعتماده ، فالحكم له وحده ، وكل شفيع جاهل ، وغير عاقل ، لا يعلم من أمر العباد شيئا فكيف يتخذونهم شفعاء ، إنه الجهل والغباء ، والضلال الذي يردي إلى اللظى.
وهكذا نصل مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشفاعة الدنيوية ، وتؤكد أن الشفاعة والشفعاء ، لا ينفعون ولا يعلمون شيئا ولا يدفعون ضرا ، ولا يسمعون دعاء. إن كل سبب لا يؤثر ، إلا بإذن ربه المدبر المقدر ، وكل سبب لا يفيد بل الله وحده هو الولي المقصود ، والرب المعبود ، والرقيب المجيب لمن سأل ، والسميع الدعاء ، والمعطي كل مخلوق ما سأل ، والعليم بحاجته قبل أن يسأل
(يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29 فكل شيء له حال ، يسأل به ربه فينال ، وكل حي له شأن ، يسأل به ربه ويستدعي عطائه ، والله ربه يلبيه به في كل حال وآن ،
حتى قبل أن يظهر عليه الاحتياج ، فالله ربه يعلم حاجته ، قبل أن يدعو لها فيأتيه بها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن على الناس أن يسألوه وحده فإنه المجيب القريب ، وأن يقصدوه وحده ، فهو الرب الذي يعلم ويحكم ويدبر (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فإذا كان يرعى العشب في الوديان ، والتلال والسهول والجبال وإذا كان يرزق الأحياء ، في أعماق البحار ، ويصور النطف الإنسانية والحيوانية ، في ظلمات الأرحام ، ويلون الثمار والأزهار ويمنحها العطر في الأكمام ، فكيف لا يرعى ويحمي ويعطي ويهدي ويطعم ويسقي ويصور ، ويشفي هذا الإنسان ، وهو أكرم مخلوق وأسما حالا ولقد فضله الله على كثير من الخلق تفضيلا ، إنه ربه الحبيب القريب المجيب الحسيب ، وإليه يجب أن يتجه الإنسان ، وعليه يتوكل ، وله يجب أن يخضع ويطيع ، ولوجهة يعمل ، ليجد ربه معه في كل حال يهدي ، ويرفعه الأنعال ، ويفتح له البركات والرحمة ، ويسبغ عليه الخير والنعمة ، متاعا حسنا ، حتى ينتهي أجله الذي سماه ، ومن ثم يستقبله بالمغفرة والرضوان حين يلقاه، وهذا هو الفوز العظيم ، والفلاح الذي يرجوه كل ذوي قلب سليم ، لعله قد حان موعد الانتقال لفهم الشفاعة في الآخرة لكني قبل أن أنقلكم إلى الآخرة ، أسألكم ونحن لا نزال في الدنيا إذا كانت الدنيا هي دار الأسباب ، وهي دار الفتنة والابتلاء ، والناس فيها يرون الأسباب هي الفاعلة ظاهريا ، فلماذا الله سبحانه وتعالى استنكر في الآيات التي أوردناها من اتخذوا الأسباب شفعاء من دون الله ولماذا أكد أن الشفاعة لله جميعا ، وأكد أن اتخاذ ما لا يضر ولا ينفع شفعاء شرك بالله.
إن هذا هو الدليل على أن الشفاعة مستحيلة ، وغير واردة إطلاقا في الآخرة ، لأنها الدار التي تنقطع فيها الأسباب ويتضح فيها الحق الذي خفي على الناس وغاب ، ويتضح للناس أن ربهم الحق هو الله ، وأنه الولي لا سواه ، وأنه هو المدبر لكل شيء يراه ، وعلى أي حال فإن هذا مجرد مقدمة ، لتدخلوا إلى الآخرة وقبل الدخول ، لا بد لي أن أذكركم بآيات سورة الزمر ، التي تؤكد أن الشفاعة في الدنيا لله ، فلقد قال (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ?43? قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون ) الزمر 43/44
إن تقديم كلمة الله في قوله (قل لله الشفاعة جميعا) يعني أن الشفاعة محصورة على الله ، مقصورة عليه ، ثم إن قوله (له ملك السماوات والأرض) فبتقديم الجار والمجرور ، يعني كذلك أن له وحده علم السموات والأرض ، ومن يعلم فهو الذي يحكم وله الأمر في كل شأن وحال ، ثم إن قوله (ثم إليه ترجعون) بتقديم الجار والمجرور يعني أن الرجوع إليه وحده ، وهو الملك والمتصرف في يوم الدين
وأن الذي يبقي الناس كلهم عند قيامهم هو ربهم ، وإليه مآبهم ، وعليه حسابهم (إلى ربك يومئذ المساق) (إلى ربك يومئذ المستقر) القيامة 30+12 ثم إني أذكركم بقوله تعالى في آيات سابقة أوردناها (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إن اشتراط الإذن في أثر الشفاعة والشفيع ، يعني أن كل سبب لا يفيد إلا بإذن الله ورضاه ، وكل سبب عاجز لولاه ، ولنضرب لكم مثلا فيما نلمسه ونراه ، فالشمس مثلا لا تضيء ، ولا تبعث الدفء والحرارة إلا بإذنه وإلا لم تقدر ولم تصل ، والماء لا يمكن أن يروي ويحيي الأرض إلا بإذنه ، وإلا لما أثر وروى ، والهواء لا يمكن أن ينعش الأحياء ويحرك الأشياء ، إلا بإذنه وإلا لما كانت هناك حياة وهكذا هكذا سائر الأشياء والأسباب ، ولهذا قال لرسوله محمد وهو من أولى العقل (وداعيا إلى الله بإذنه) الأحزاب 46 وقال (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) إبراهيم 1 وقال عن المسيح وهو يتحدث عن رسالته وآياته (وأبريء الأكمه والابرص وأحي الموتى باذن الله) آل عمران49 وإذا كان هذا هو شأن المسيح ، الرسول المؤيد بروح القدس ، فان من المهم أن نقول وهكذا سائر الأدوية والمداوين ، في حياة العالمين حتى الملائكة لا تؤثر إلى بإذن الله ، يقول الله عن جبريل
अज्ञात पृष्ठ