هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول
لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93].
لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة.
ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات..
ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين.
وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127].
إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل.
وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع.
هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال.
अज्ञात पृष्ठ