ومع ذلك - يا ابنتي - فليس عجبي من دعاة الأيديولوجيا بأي لون كانت، بأشد من عجبي من فئة أخرى تملأ الدنيا من حولنا كلاما عن خرافات يسرقون بها انتباه الناس، وكأن حياتنا قد استكملت جوانبها، ولم يعد أمامنا إلا هذا الترف من الترصد لأشباح القبور كيف تظهر وأين تختفي، ومن التعقب لعفاريت الجن كيف تشيع الفزع في المنازل وتحطم زجاج النوافذ وقطع الأثاث، إلى الحد الذي يستعان فيه بالشرطة، ويؤخذ الأمر فيه مأخذ الجد في الصحف!
كلا يا ابنتي، لا تسأليني عن أيديولوجيا اليسار واليمين، بل اسأليني عن طريق النظر العلمي كيف يكون، لعل شعاعا منه أن يبدد شيئا من هذا الظلام الكثيف، الذي ساعد على قيامه - وا أسفاه! - نفر من قادة الكلمة، مقروءة ومسموعة.
كاهنة دلفي
الفرق بين فكر قديم وفكر جديد، قد يتجلى أمام عيني في أمثلة صغيرة عابرة، ولقد كان المثل الصغير العابر هذه المرة، الذي رأيت فيه كم هو هائل وجسيم ذلك الفرق بين قديم وجديد، أني رأيت أصحاب الدراسات المستقبلية يستخدمون في حساب المستقبل أساليب يطلقون عليها اسم «طريقة دلفي» في البحث، فانطلقت عندئذ خواطري انطلاقا لم أملك له زماما.
فلكل كاتب طريقته في تجميع أفكاره، لكن هذه الطرق مهما اختلفت، فلا بد لحركة السير من نقطة انطلاق، وإني لأرى نفسي كالطائر الذي رأيته ذات يوم واقفا عند حافة الماء يحسو منه حسوة ثم يرفع رأسه لينظر في الخلاء، كأنه ينتظر حتى تسري في كيانه تلك الحسوة التي احتساها، قبل أن يحني رأسه نحو الماء ليلقط حسوة أخرى، وهكذا أفعل فيما أقرأ وأسمع؛ إذ إني ألقط نقطة انطلاقي أثناء التنقيب والتقليب، حتى إذا ما وجدتها تركتها تستجمع حولها من خبرة الماضي ما تستجمعه.
فلما أن قرأت هذه المرة شيئا عما يسمونه اليوم بطريقة «دلفي» في استباق الرؤية المستقبلية، تركت نبع الماء الذي أمامي، وجعلت أجوب بالذاكرة فيما قد كان في سالف الأيام، مقرونا إلى ما هو كائن اليوم، وهل كان يمكن أن يرد ذكر «دلفي» - فيما يخص دراسة المستقبل - دون أن أذكر سقراط، وكيف تأثرت حياته بما أوحت به «كاهنة دلفي».
و«دلفي» - قديما - هو المكان الذي أقيم فيه معبد أبولو، على مرتفع الأرض الذي أحاط بأثينا من جهتي الشمال والغرب، وما دام المكان مقرا لمعبد له قداسته عند الناس، فلا بد أن تنسج له الأساطير التي تشبع الخيال، فقيل إن زيوس - عند بدء الخليقة - أراد أن يعين نقطة من الأرض لتكون أقرب النقاط إلى مقام الأرباب، ثم أراد أن تكون تلك النقطة المقدسة في وسط الأرض تماما، فأرسل نسرين من السماء ليطيرا في اتجاهين متقابلين، فأحدهما يطير من الطرف الأيمن، والآخر يطير من الطرف الأيسر، وحيث يلتقيان تكون النقطة الوسطى المقربة إلى الآلهة، فكان أن التقى النسران عند «دلفي»، ولذلك أقيم المعبد، وأقيمت فيه الكاهنة التي تنطق بما يمليه عليها أبولو، وما هي إلا أن سعى الناس إلى الكاهنة في دلفي من أرجاء البلاد جميعا، كل يسألها عن مستقبل يرتقبه: هذا يسأل عن نسل يتوقع أن ينجبه، أيكون ذكرا أم يكون أنثى؟ وذلك يسأل عن تجارة ماذا يكون من أمرها ربحا أو خسارة؟ وثالث يسأل عن رحلة سفر مقبلة أتكون سالمة من الخطر أم هي مخوفة العواقب؟ ... بل إن حكومات المدن اليونانية نفسها كانت ترسل إلى كاهنة دلفي الرسل؛ لتسأل عن حرب معتزمة، أو عن تحالف يراد له أن يقام مع دولة أخرى.
ولقد كان بين تلاميذ سقراط يومئذ، شاب معجب بأستاذه الفيلسوف، مؤمن أشد الإيمان وأعمقه بأن سقراط بين الأثنيين هو الحكيم، فلما طالبه بعض زملائه أن يثبت دعواه، لم يجد الشاب طريقا أمامه إلا أن يذهب إلى كاهنة دلفي، يستوضحها رأي أبولو في سقراط، فجاءه الجواب عن راعية المعبد، بما يؤيد فكرته عن أستاذه، وعاد الشاب ومعه الجواب الذي يقطع الشك باليقين؛ لأن أبولو صادق دائما، وما تنطق به كاهنة دلفي نقلا عن أبولو، لا بد كذلك أن يكون صادقا، ثم ما كان بعد ذلك من توجيه إلهي لسقراط بأن يتعقب أهل أثينا بما كانوا يزعمونه لأنفسهم من علم؛ ليستوثق من صدق زعمهم، إلى آخر ما هو معروف عن حياة ذلك الفيلسوف.
تلك كانت الوسيلة التي لجأ إليها الناس على مر العصور القديمة، كلما أرادوا أن يستطلعوا الخبر عن أمر مقبل لا يزال مضمرا في ظلام الغيب؛ فلم يكن الأمر عندهم حسابا يحسب بالأرقام، بل كان نبوءات تأتيهم من السماء على ألسنة المقربين إليها، وأخذت تلك الوسيلة تتفرع فروعا كثيرة، اتخذت أشكالا منوعة؛ فقد لا يكون الناطق بالنبوءة إنسانا بعينه يستخدم ألفاظ اللغة في التعبير، بل قد تأتي النبوءة من قراءة كف، أو من ضرب الرمل، أو النظر إلى رواسب البن في فنجان القهوة، أو من صدفات البحر، أو أوراق اللعب، أو غير ذلك من وسائل.
فإذا ما دار الزمان دوراته الكثيرة، حتى ولدت أيامه ولياليه للناس هذا الوليد الذي نسميه ب «العصر الحاضر» بكل ما تعنيه هاتان اللقطتان من أبعاد وتفصيلات، الله أعلم باتساعها ومداها، تبدل لنا معبد دلفي ليصبح معامل العلماء، وتبدلت راعية دلفي - أو كاهنته - لتصبح هي الحاسب الإلكتروني؛ فلم تعد صورة المستقبل المجهول لتنكشف بوسائل العراف أو العرافة، بل إنها لتخضع لأدق حساب يتم في أدق الأجهزة العلمية. «الكمبيوتر» هو كاهن اليوم، وغرفة البحث العلمي هي معبده؛ فإذا تذكرنا جيدا وفي وضوح لا يشوبه ظل من غموض، بأن القرار الذي نتخذه اليوم في شأن من شئون حياتنا، إنما هو الطريق الذي سنمشي عليه بأقدامنا غدا؛ أعني أننا إذا ما أدركنا إدراكا قويا، أن ما نقرره اليوم إنما هو نفسه سياسة الحياة العملية غدا، عرفنا بالتالي خطورته على حياتنا؛ فبمقدار ما نتقن الحساب قبل القرار، يكون نجاح العملية غدا.
अज्ञात पृष्ठ