لكن هذا التشابه مهما اشتدت صورته، فهو لا ينفي أن يكون هنالك بين الأشباه والنظائر ما هو أقوى وما هو أضعف، فيكون التأثير للأقوى والتأثر للأضعف، فإذا كانت الأرض والسماء متناظرتين، فالسماء أقوى؛ ومن ثم وجدنا مصائر الناس ومصائر الأشياء على وجه الأرض، متأثرة بما تقرره لها الكواكب والنجوم!
ومرة أخرى تحملني الذاكرة إلى ما ورد في رسائل إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي عن هذا التناظر الذي يذكره ميشيل فوكوه، لكنه عند إخوان الصفا أدق وأعمق، وإنني لأبيح لنفسي على تواضع جم، أن أرفض ما قاله فوكوه وما قاله إخوان الصفا على حد سواء؛ فماذا قال «خلان الوفا» - كما وصفوا أنفسهم في عنوان رسائلهم؟ قالوا إن الله جل وعلا جعل من الأعداد نماذج تتواتر على غرارها الكائنات تواتر النظائر؛ فلكل عدد ما يماثله من الأشياء، فعلى غرار الثلاثة - مثلا - جاءت النظائر الآتية: الطول والعرض والعمق بالنسبة للأبعاد، والخط والسطح والجسم بالنسبة للمقادير، والماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للزمن، والواجب والممتنع والممكن بالنسبة لدرجات الصواب، والرياضية والطبيعية والإلهية بالنسبة للعلوم، وعلى غرار الأربعة جاءت النظائر الآتية: الطبائع الأربع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء والتراب، والأخلاط الأربعة، وهي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة ، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، ومراتب الأعداد، وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف؛ وعلى غرار الخمسة جاءت النظائر الآتية: أجناس الحيوان الخمسة، وهي الإنسان والطير والسابح والمشاء (ذو الرجلين، وذو الأربع)، والذي ينساب على بطنه؛ وأجزاء النبات الخمسة، وهي الأصل، والعروق، والورق، والزهر، والثمر؛ والأيام الخمسة الملقب أسماؤها بالعدد، وهي: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس؛ والصلوات الخمس، والأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن؛ إذ هي تختلف من حرف واحد إلى خمسة أحرف، وهكذا يجمع إخوان الصفا الأشياء والأفكار في مجموعات جاءت على نماذج الأعداد.
3
وننتقل إلى النوع الثالث من أنواع التشابه التي أوردها ميشيل فوكوه ليربط على أساسها أجزاء الكون في كيان واحد، وهذا النوع الثالث عنده هو ما أسماه بالمطابقة أو التماثل؛ وها هنا لا يكون التشابه على أساس ما هو محسوس بالحواس كما كانت الحال في النوعين الأولين، بل إنه يجاوز المحسوس إلى المعقولات؛ إذ يجعل المطابقة بين الأشياء منصبة على العلاقات التي تشير إلى طريقة البناء والتكوين: فعلاقة النجوم بالسماء متماثلة أو متطابقة مع علاقة الأحياء بالأرض، والمعادن بالصخر، وأعضاء الحس بالوجه، وبين النبات والحيوان مطابقة، لولا أن رءوس النبات إلى أسفل ورءوس الحيوان إلى أعلى؛ وأما الإنسان فهو مركز هذه الطبقات كلها؛ لأنه يقف بين كائنات السماء وكائنات الأرض، فيربط هذه بتلك؛ إذ فيه ما يطابق كائنات الأرض، كما أن فيه ما يطابق ملائكة السماء.
ولا تعود بي الذاكرة هذه المرة إلى إخوان الصفا ورسائلهم، بل تعود إلى الفيلسوف العربي الخالص أبي يعقوب بن إسحاق الكندي (القرن التاسع الميلادي) الذي شق طريقا سلكه من بعده فلاسفة آخرون، وذلك حين أخذ يتصور العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في تسلسل من العقول: فعقل منها يظل فاعلا أبدا، وهو أول العقول وعنه نشأت سائرها، وذلك هو الله سبحانه؛ وثانيها في الترتيب عقل بثه الله في الإنسان، وجعله كامنا في فطرته، إلى أن تتهيأ له الظروف التي يخرج بها من حالة الكمون إلى حالة الفعل، فيكون عندئذ بمثابة العقل الثالث في التسلسل؛ وأخيرا يجيء السلوك الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، مجسدا فيه لقوته العاقلة، وبهذا يصبح هذا السلوك العملي بمثابة العقل في آخر مراتبه ... أقول إن الذاكرة أعادتني إلى هذا التصور عند فيلسوفنا الكندي، فقلت لنفسي: أليس في هذا التسلسل العقلي من رتبة إلى رتبة تليها، بحيث تجيء كل رتبة منها وكأنها تمثل سالفتها، دون أن تساويها، أقول أليس في هذا التصور رباط على أساس التماثل الذي افترضه ميشيل فوكوه، لكنه رباط أقوى وأعمق؟
4
وأما الصورة الرابعة والأخيرة من صور التشابه الذي يربط كائنات الدنيا بعضها ببعض فيما يرى ميشيل فوكوه، فهي صورة التعاطف، الذي يستطيع عبور الكون من أقصاه إلى أقصاه في لمحة؛ فهو ليس كالتجاور مقيدا بمكانه، ولا هو كالتناظر تشابها سكونيا في بنية التكوين، ولا كالتماثل يترك المتماثلات قائمة كما هي قائمة، بل هو (أي التعاطف) حركة سارية تجذب الكائنات بعضها إلى بعض؛ وإلا فما الذي ينحو بالحجر الساقط نحو الأرض إن لم يكن بين هذين الشبيهين تجاذب؟ وما الذي يرسل لهب النار صاعدا إلى الأثير؟ ما الذي يجذب جذور النبات نحو الماء؟ ما الذي يدور بعباد الشمس مع قرص الشمس حيث يدور؟ إنه هو رباط التجاذب أو التعاطف بين الكائنات، أو قل إن شئت إنه المحبة بين الأشياء؛ لكن هذه المحبة إذا ما سارت بالأشياء إلى آخر مداها، كان من شأنها أن تدمج الكائنات المتحابة كلها في كائن واحد، شأن الحب دائما إذ يصهر الأفراد فيزيل عنهم فردياتهم ليذوبوا معا في وجود واحد.
لكن الكون لا يراد له أن ينتهي أمره إلى مثل هذا التجانس الذي تضيع معه خصائص الأفراد، ولذلك نشأت قوة أخرى، هي قوة التنافر أو الكراهية، لتعود فتباعد بين الكائنات حفاظا لما بينها من تباين وخلاف؛ فلئن كان التجاذب يحيل الكثرة إلى وحدة، فالتنافر يعيد الوحدة إلى كثرة؛ ويسوق فوكوه مثلا للتنافر حياة التمساح والفأر والعنكبوت؛ فالتمساح الجبار يخرج من بيته المائي إلى الشاطئ اليابس ليسترخي، فاغرا فكيه، فيأتي الفأر ويتسلل بين الفكين منزلقا من الحلق الواسع إلى حيث أمعاء التمساح فيقرضها بأسنانه، فيلقى الزاحف الجبار مصرعه، ويخرج الفأر طاعما ظافرا، لا لينعم بحياة بعد ذلك، بل ليتلقاه عنكبوت مفترس فينقض عليه ليغتذي!
فإلى أي شيء تعود بي الذاكرة هذه المرة إن لم تعد بي إلى فلاسفة اليونان الأقدمين؟ إلى أنبادوقليس، الذي كان أول من رد الأشياء - لا إلى أصل واحد - بل إلى أصول أربعة: هي الماء والهواء والنار والتراب؛ فهي عنده عناصر أولية لا يسبق أحدها الآخر، ولا يشتق بعضها من بعض؛ لكنها تتصل ببعضها أو تنفصل عن بعضها، اتصالا وانفصالا لا ينقضيان، وبهذين العاملين تتكون الأشياء أو تعود إلى الانحلال، والذي يجمع العناصر أو يفرقها هو المحبة والكراهية (ويقال عنهما في الكتب العربية أحيانا: المحبة والغلبة، والمحبة والعدوان)، أما المحبة فتضم الذرات المتشابهة إذا ما تفرقت، وأما الكراهية فتفصل بينها؛ ولكل من هاتين القوتين مرحلة تتغلب فيها على خصيمتها، فإذا ما كانت الغلبة للمحبة سادت الوحدة وسادت السكينة، وأما إذا كانت للكراهية، فإن السيادة عندئذ تكون للفرقة والتمزق والاضطراب؛ ومراحل المحبة هي فترات الإصلاح، ومراحل الكراهية هي عصور الفساد والفوضى.
إنني إذا ما استخدمت اللغة التي يستخدمها ميشيل فوكوه في كتابه المذكور، قلت: ترى أينكفئ العالم على نفسه لتجيء صورة الفكر الإنساني في القرن العشرين انعكاسا مرآويا لصورته عند العرب في القرنين التاسع والعاشر، ثم انعكاسا مرآويا مرة أخرى لصورته عند بعض اليونان الأولين؟!
अज्ञात पृष्ठ