وأما دور الشاعر في حياة أسلافنا فهو يلخص دور الفنون كلها بمعناها الحديث: الشعر والموسيقى والتصوير والنحت والعمارة وسائر ما يصاحبها من فروع، فلو ترجمنا الهيكل الحضاري القديم إلى هيكل حديث، قلنا إنه في مكان الخليفة والفقيه والشاعر، أضع العالم والمشرع والفنان، وبديهي أن العالم لن يكون عالما إلا بعلم عصره، وأن المشرع لن يكون مشرعا إلا إذا أخذ في اعتباره حياة عصره، وأن الفنان لن يكون فنانا إلا إذا امتص رحيقه من زهرات عصره، على أن هذا الثلاثي العصري الجديد، سيكون له من تراثه الأصيل إطار عمله كله، وهو إطار قوامه اللغة العربية أداة للتعبير، وقواعد الدين وأصوله أساسا للتشريع.
حاضر الثقافة العربية
1
للفكر العربي - المعاصر منه وغير المعاصر على السواء - موقف يتكرر بصورة متشابهة، كلما التقى بثقافة وفدت إليه من خارج حدوده، وهو موقف يتلخص في أنه، بعد أن يفتح نوافذه للثقافة الوافدة، حتى يتم لها انتشار ورسوخ في دوائر العلم والفلسفة والفن بدرجة ملحوظة ومؤثرة، ينهض من هذه الدوائر نفسها، من يخشى على الهوية الإسلامية العربية أن تضيع، فيعلن معارضته للثقافة الوافدة، معارضة لا بقيمها على مجرد الرفض الأبكم، بل بقيمها على مناقشة لمقوماتها، ملتمسا فيها مواضع ضعف وتناقض، أو مواضع تعارض مع الشريعة الإسلامية، أو مع المبادئ الأولية لوجهة النظر العربية إلى الكون وإلى الإنسان.
على أن هذه المعارضة نفسها، لا تلبث أن تستثير من يتصدى للدفاع عن الثقافة الوافدة، مؤسسا دفاعه في أغلب الحالات، على أنه لا تعارض بين الأفكار الجديدة والشريعة الإسلامية، أو بينها وبين الوقفة العربية، وإنما هي أفكار من شأنها أن توسع وأن تطور وأن تغذي، دون أن تعمل على الهدم أو الإبادة، وقد يحدث أحيانا أن يظهر بين الطرفين فريق ثالث يختار لنفسه موقفا وسطا، يبتغي به إقامة كيان ثقافي جديد، يجمع بين مقومات الطرفين في صيغة ثالثة.
ومن يمعن النظر في بنية الفكر العربي في عصره القديم، وبنيته في العصر الحديث، يلحظ بين الحالتين تشابها شديدا؛ ففي كلتا الحالتين فتحت النوافذ بغير تحفظ أمام ثقافة تجيء من خارج، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ما جاء من «الغرب» في كلتا الحالتين: من التراث اليوناني في الحالة الأولى، ومن أوروبا وأمريكا بصفة عامة في الحالة الثانية، وفي كلتا الحالتين كان النقل على نطاق واسع، بل وبتدبير من الدولة؛ فالشبه قريب بين «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع الميلادي، لتقوم بترجمة الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، وبين «مدرسة الألسن» التي أنشأها محمد علي في مصر في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، لترجمة ما أمكن نقله من الفكر الأوروبي الحديث، وجعل الإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي.
وفي كلتا الحالتين (العصر القديم والعصر الحديث) تغلغل الفكر المنقول في شرايين الحياة الثقافية، فبات أثره واضحا فيما يكتب وما يقال، حتى إذا ما بلغ ذلك مداه، وخيف أن يتجاوز المدى إلى الحد الذي يهدد الطابع الأصيل للفكر العربي عامة، وللشريعة الإسلامية بصفة خاصة، نهض من الأعلام البارزين من يقاومه، ببيان ما انطوى عليه من تناقض، ولقد بلغت المقاومة في العصر القديم فنها في «الغزالي» بكتابه «تهافت الفلاسفة» الذي أراد به أن يظهر مواضع التناقض في الفلسفة اليونانية (وفلسفة أرسطو بصفة خاصة) كما أراد به في الوقت نفسه أن يشير إلى الخطر الذي يتهدد العقيدة الإسلامية بتأثير تلك الفلسفة، ويقابل ذلك في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، بكتابه «الرد على الدهريين» (أي الرد على أصحاب الفلسفة المادية)؛ إذ اضطلع الأفغاني - وبعده الشيخ محمد عبده - بالمهمة نفسها، وهي أن يناقش المذاهب المادية التي شاعت في أوروبا إبان النصف الثاني من القرن الماضي، ومنها نظرية التطور التي أخذ بها دارون، مناقشة أراد بها إظهار مواضع الخطأ كما يراها، ثم أراد في الوقت نفسه أن يبين خطورة تلك المذاهب على العقيدة الإسلامية.
وفي كلتا الحالتين - العصر القديم والعصر الحديث - لم تكن تلك المقاومة لتفلت دون أن يتصدى لها مؤيدون للثقافة الجديدة الوافدة، ولقد كانت المواجهة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت»، لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإسلامي العربي في هذا الصدد؛ إذ لم يكن الأمر في تلك المواجهة مقصورا على كتاب أصدره صاحبه ليفند به كتابا أصدره مؤلف آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة مليء بأمثال هذه المعارضات، التي يرد بها فيلسوف على ما نشره فيلسوف آخر، بل إن المعارضة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، كانت في حقيقتها تعارضا بين وقفتين حضاريتين، ونظرتين ثقافيتين، فكأنما الاختلاف بين الرجلين كان اختلافا حول الإجابة عن هذا السؤال: أنأخذ حضارة معينة بعض أصولها الثقافية من حضارة أخرى؟ لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونين مختلفين، أم إن في هذا الأخذ خطرا على المتلقي أن تنمحي هويته في هوية من جاء منه العطاء؟ ومن أجل هذه النقطة ذاتها، كان المؤيد للنقل عن الآخرين، يستند دائما إلى الزعم بأن مثل هذا النقل لا يتعارض مع الملامح الرئيسية للثقافة الناقلة.
وكما تصدى ابن رشد قديما للغزالي في ثورته على فلسفة اليونان المنقولة إلى الثقافة العربية، كذلك تصدى كثيرون في عصرنا الحديث للذين أرادوا مقاومة الأخذ عن ثقافة الغرب؛ فإلى جانب الأفغاني في «الرد على الدهريين» كان هناك شبلي شميل الذي بذل جهده كله دفاعا عن تلك المذاهب المادية التي هاجمها الأفغاني، ولو استعرضنا الفكر العربي خلال ما انقضى من القرن العشرين، لوجدناه سلسلة من مواجهات جاءت على هذا النمط: فكر يأتي من الغرب، فيسري في حياتنا الثقافية، فينهض من يقاومه لخطره على الطابع الأصيل، فلا يلبث أن يظهر من أنصار الجديد من يدافع عن الفكر الوافد، بحجة أنه مصدر قوة لنا لا مصدر ضعف.
والذي نلحظه في هذا التعاقب بين النقل عن الآخرين، ثم معارضة المنقول، ثم معارضة المعارضة، هو أنه - في جميع الحالات تقريبا - كان الأقدر على البقاء على طول المدى، هو الطابع الأصيل التقليدي الموروث، ولكنه يبقى بعد أن يكون قد امتلأت خلاياه بغذاء صحي مما استمده من الثقافات الأخرى، ولا غرابة - إذن - أن نجد اللقاء الحاد بين الغزالي من جهة وابن رشد من جهة أخرى، قد انتهى إلى رسوخ الغزالي في الوجدان العربي والإسلامي، على حين أن ابن رشد كادت تقتصر أهميته على الغرب، عن طريق شروحه للفلسفة الأرسطية، وكذلك ما حدث في اللقاء الفكري بين أنصار التقليد وأنصار التجديد في حياتنا المعاصرة؛ فالبقاء الأقوى هو لأنصار التقليد، ولكنه بقاء أترعت شرايينه بدماء الفكر الجديد.
अज्ञात पृष्ठ