مجالات ثقافية كثيرة تغيرت في أسسها نتيجة لنظرية اللاشعور؛ ففي الأدب والفن والفلسفة جاءت آثارها واضحة وعميقة؛ فقد شغل الأدباء بالغوص في أعماق النفس الإنسانية كلما أرادوا تصويرها، وشغل رجال الفن بإخراج ما بأنفسهم بعد أن كانوا قبل ذلك ينقلون عن الطبيعة الخارجية؛ ومن ثم نشأت للفن في عصرنا هذه الاتجاهات الكثيرة التي نعرفها من سريالية إلى تجريدية وانطباعية وغير ذلك، ولم يعد الفنان مسئولا عن موضوع خارج نفسه مفروض عليه، بل موضوعه الأساسي هو نفسه ذاتها يضع ما فيها ألوانا على اللوحة أو نحتا في الحجر؛ فإذا ما جاء الناقد ليعلق ويفسر، كان عماده نظرية اللاشعور.
وأما الخط الفكري الرابع، وهو نظرية النسبية، فلست بحاجة إلى تعقب أثره في علوم الطبيعة، وهو الأثر الذي انتهى بالإنسان إلى تحطيم الذرة واستخراج قوتها الماردة، كما انتهى بالإنسان إلى أن يشق طريقه إلى كواكب السماء، وإنما يهمني بصفة خاصة التركيز على الجوانب الإنسانية التي ترتبت عليها، ومن أهمها نسبية القيم ونسبية الثقافات؛ فلم يعد يسيرا على أحد أن يزعم بأن ثقافة معينة أعلى أو أدنى من ثقافة أخرى، إلا بمقدار ما تنفع واحدة في ناحية لا تنفع فيها الأخرى.
4
تعالوا نقف معا عند المنحنى الذي استدار عنده الزمن في انتقالته من القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين الحالي، لنرى ماذا كان المناخ الفكري السائد قبل ذلك المنحنى، وماذا ظهر بعده، وكيف أن الشطرين موصول أحدهما بالآخر.
الحق أن القرن الماضي كان هو الفترة التي أبدع فيها الفكر الإنساني عامة، وفي الغرب بصفة خاصة، نتاجا غزيرا متلاحقا، تطلب امتدادا زمنيا استطال إلى يومنا هذا لتمثله وهضمه، وذلك ما قد حدث دائما في مسار التاريخ الفكري منذ أقدم العصور: عصر يبدع الجديد، وعصر بعده يتمثله على مهل.
فلقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي، دارون ونظريته في التطور البيولوجي، وماركس ونظريته في التطور التاريخي، وفرويد ونظريته في الصلة بين الوعي العاقل ومستويات اللاوعي الدفين، وأخيرا جاء أينشتاين ليعلن في تاريخ العلم عصرا جديدا متكاملا.
كانت أوروبا قد شهدت خلال النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية عارمة، أقامها وشجعها ازدهار الفكر العلمي موضوعا ومنهجا، حتى لقد حاولوا تفسير كل الظواهر الشعورية والعقلية تفسيرا طبيعيا ماديا؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر، بأن تلك الموجة المادية الطاغية عندئذ، هي التي دفعت سائلا من أفغانستان يوجه سؤالا إلى جمال الدين الأفغاني وهو في مصر، يسأله فيه رأيه عن جماعة الماديين - أو الدهريين - الذين علا صوتهم في أوروبا، فأجابه الأفغاني بكتاب كامل، هو كتاب «الرد على الدهريين»، وهو أشهر ما خلفه لنا ذلك الرائد المسلم العظيم.
والناظر من بعيد إلى تلك الموجة المادية الطبيعية، يلحظ فيها أفكارا رئيسية يبدو على ظاهرها التعارض بعضها مع بعض؛ فبينما سادت فكرة تعمل على اتصال الكون بعضه ببعض في متصل واحد، اضطروا إلى افتراضه ليعللوا مسار الضوء عبر الأبعاد الفلكية (ولهذه الفكرة الاتصالية انعكاسها في تسلسل الكائنات في نظرية دارون، من الخلية الأولى إلى الإنسان، واتصال التاريخ في شريط مادي واحد في نظرية ماركس، واتصال العقل الأعلى بالغرائز الدنيا في نظرية فرويد، وهكذا)؛ أقول إنه بينما سادت تلك الفكرة الاتصالية عندئذ، قامت إلى جانبها فكرة رئيسية تعارضها في الظاهر، وهي الخاصة بتحليل الكون إلى جزيئات صغيرة لكل منها كيانها الخاص؛ أما المادة فجزيئاتها الذرات وما فيها من مكونات كهربية - السالبة منها والموجبة - وأما الأحياء فجزيئاتها هي الخلايا بما فيها من مكونات كذلك.
هذه واحدة، والأخرى أنه بينما سادت في الفيزياء الفكرة القائلة بأن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، شأنها في ذلك شأن المادة في الطبيعة، فهي الأخرى محافظة على كمها، لا تزيد ذرة ولا تنقص ذرة، رأينا فكرة تقوم إلى جانبها، وتعارضها في الظاهر، وهي فكرة التطور؛ إذ ماذا يكون التطور إلا أن يكون ضمن معناه ظهور كائنات حية جديدة، وكلما ظهر كائن حي ازدادت الطاقة بظهوره، هذا فضلا عن أن التطور يقتضي الزيادة في الكون بصفة عامة، وهي زيادة تناقض القول بأن المادة والطاقة تحتفظان بمقدار معين لا ينقص ولا يزيد.
وجاء القرن الحالي ليتناول تلك الحصيلة الفكرية، بكل الخلفية التي كانت وراءها، فيصوغها صياغة جديدة، هي التي نتحدث عنها الآن على أنها الفكر المعاصر؛ ولقد اقتضت هذه الصياغة الجديدة انقلابا أو ما يشبه الانقلاب في أسس العلوم كلها، فضلا عن أسس التفكير الفلسفي؛ لأن الفلسفة ما هي في صميمها إلى الضوء يلقى على ميدان العلوم، ولذلك كانت بين الجانبين صلة وثيقة، فكلما تغيرت أصول العلم في عصر من العصور، تغيرت معها أجواء الفلسفة.
अज्ञात पृष्ठ