ومثل هذا التحليل الضروري للفكر الصحيح، يتطلب حدا أدنى من علمية النظر، وهو ما لا يتوافر عادة لعامة الناس؛ بل إنك لو أردت لفت أنظار عامة الناس إلى ما تنطوي عليه تلك المعاني من تركيب شديد التعقيد، ومن أبعاد قد لا يعلم مداها إلا المتخصصون، حسبوك من رواسب بيزنطة القديمة، تعيش في تصورات شكلية، مقطوعة الصلة بمجرى الأحداث.
وتجيء وسائل الإعلام، فيرى المسئولون عنها، أنهم مضطرون إلى مخاطبة الجمهور على قدر طاقته، فتلجأ تلك الوسائل إلى التبسيط الذي يطمس الفوارق بين المختلفات، فلا يلبث المثقف إزاء هذا كله أن يجد نفسه في عزلة وحده، يتحدث بما لا يفهم إلا للقلة التي تتابع تحليلاته في دقتها، فهل من عجب أن تضيق نفس المثقف بمقدار ما تنسد أمامه الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم؟
6
ولست أريد أن ألقي كل أسباب الأزمة الثقافية عندنا على عامة الجمهور وحدها؛ بل إن بعض هذه الأسباب موصول بالمثقفين أنفسهم؛ فقد يحدث ألا تسعفهم ظروف العيش في متابعة الفكر الجديد، الذي ما ينفك متفجرا في أرجاء العالم المتقدم؛ ففي كل يوم قضية تطرح، وفي كل يوم محاولات تبذل، حتى ليوشك فكر العام الماضي أن ينسخه فكر هذا العام لسرعة الجريان.
إنه ليذهلك أن تعلم كم تغيرت الأسس التي تقام عليها العلوم المختلفة، من منطق ورياضة، إلى فيزياء وبيولوجيا ونفس واجتماع واقتصاد، مما يحتم تغييرا عميقا في وجهات النظر، فهل تغيرنا نحن في وجهات أنظارنا بما يتناسب مع ذلك التغير العميق؟
لقد تحولت المادة في الفيزياء الجديدة إلى طاقة؛ فلم يعد للمادة معناها القديم، حتى لقد أوشكت على الزوال تلك الفواصل التي كانت تفصل ما بين المادة واللامادة في الكائنات، لكننا ما نزال على وقفتنا القديمة في التفرقة بين الصنوين؛ وتغيرت أسس الرياضة، بحيث أصبح في حكم المستطاع أن تقام عدة بناءات رياضية، دون أن ينقض أحدها صدق الآخر، فلم تعد هندسة إقليدس وحدها - مثلا - هي الهندسة التي تقرر رياضيات المكان، بل إننا كلما غيرنا من الفروض الأولى تغيرت النظريات تبعا لذلك، فنشأت بين أيدينا هندسات لا إقليدية كل منها صواب من الوجهة الرياضية البحت، وكان لهذا الانقلاب في مجال الرياضة أثر بعيد المدى في منهج التفكير؛ إذ اتسعت أمام العقل البشري فرص التصورات الجديدة، وإقامة المنظومات الفكرية العديدة، بعد أن كان حبيس نظام واحد، فهل أصابنا شيء من ذلك الأثر في اتساع مجالنا الفكري؟ بل تغير المنطق نفسه؛ فبعد أن جرى المفكرون، خلال القرون الطويلة، على منطق يعالج معاني كيفية مبهمة المعالم والحدود، أصبح المنطق اليوم رياضيا يفتت الفكرة الواحدة تفتيتا لا يدع لها مجالا للخلط والغموض، علوم كلها تغيرت من الأساس، فتغيرت بالتالي طريقة التفكير، تغيرا لم تصب منه إلا أقل من القليل؛ ويقف المثقف منا أمام هذه الحركة البطيئة، عاجزا أو كالعاجز.
فالأمية ما تزال ثابتة الجذور في أرضنا، تقف حائلا دون سرعة التطور مع تطور العالم السريع، وهي عندنا على درجات، بادئة من أمية القراءة والكتابة على مستوى الألف باء وصاعدة إلى أمية بين المتعلمين لا تتيح لهم أن يتابعوا الفكر الجديد، فماذا في وسع المثقف الجاد أن يصنع؟ هل يكتب لغير قارئ؟
وكأن عقبة الأمية هذه لم تكفنا، فأضفنا إليها ما يزيدها عسرا، بأن أقمنا في عملية النشر ما يعوقها، حتى ليتعذر أحيانا على الكتاب أو المجلة أو الصحيفة أن تنتقل بين أجزاء الوطن العربي انتقالا ميسرا؛ فبعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر من أسلافنا - برغم صعوبة المواصلات - تجعل أحدهم إذا ما أذاع فكرة في موطنه، لا يلبث أن يسمع أصداءها عائدة إليه من سائر أقطار الأمة العربية، في مشرقها وفي مغربها، وبغير هذا التبادل الفكري، بالرد والنقد والتعليق، كيف يمكن أن تجتمع الروافد المتفرقة في تيار واحد؟ أقول إنه بعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر قائمة وقوية، أصبحنا نحن اليوم - في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية - على صورة من التفكك والتباعد بحيث يوشك أحدنا ألا يسمع شيئا عن أخيه في قطر عربي آخر.
لقد زارني في القاهرة طالب عربي يعد نفسه للدراسة العليا، زارني لعله واجد عندي ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل إجازة الماجستير، فقلت له في معرض الحديث: إن فلانا في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألممت ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضا نزيها يقومها بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر العربي؛ لأن الرجل يكاد يكون مجهولا لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه؛ فما كان أشد ذهولي حين أجابني الطالب بقوله إنه لا يستطيع ذلك، وإلا عرض نفسه للأذى في وطنه إذا عاد! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني؛ لأنه يكفي أن يكون المناخ الفكري الذي نعيش في أجوائه هو مما يتيح للقائل أن يقول كلاما كهذا. إن هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات على أن المثقف الأصيل في بلادنا محبط إلى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في النجاة.
فحتى لو قام بيننا المثقف الذي يؤمن بفكره إلى الحد الذي يحطم به عوائق النشر، ليخرج كتابه في الأسواق التي يعد زبائنها بالمئات لا بالألوف فضلا عن الملايين ، وجدنا ضروبا أخرى من المخاوف تعكر جو السماء بغمامها. فيختفي شعاع الضوء الذي رجونا له الظهور؛ وسرعان بعدئذ ما يعلم رأس الذئب الذي أطاح به الليث لما اجترأ الذئب على عرينه، أقول إن ذلك سرعان ما يعلم ثعالب كثيرة ألا تفقد صوابها فتدنو بجرأتها نحو دنيا الكتابة والكتب.
अज्ञात पृष्ठ