وكما رأينا، فإن الاصطلاحات من هذا النوع، وما يماثلها من التعبيرات والفقرات المصاغة، هي جزء من اللغة الخاصة للمنشد الملحمي؛ إذ تعين المنشد على النظم ارتجالا مستخدما وحدات دلالية أكبر من «الكلمة» المطبوعة. والميزة العملية لأسلوب الصياغة النمطية المتكررة أنه يتيح للشاعر أن ينظم بتدفق ثابت، مع إبطاء إيقاع السرد بزيادة النسبة بين عدد «الكلمات» المنطوقة ووحدة التوصيل الدلالي. فعبارة «آخيل ذو القدمين السريعتين» تستغرق وقتا أطول في قولها ولكنها تعني فقط «آخيل» (نعم، هو رياضي عظيم، ولكن تذكيري بالأمر لا يطلعني على أي شيء لم أكن أعرفه بالفعل أو شيء ذي صلة في هذا السياق خاصة). لا شك في أن النعت يستحضر تراثا شاسعا من الحكايات عن آخيل، مكتسبا بذلك قوة، ولكنه لا يحدث أي تطوير في السرد على الإطلاق.
إن إبطاء السرد بهذه الطريقة لا يمنع إيقاع القصة من أن يكون سريعا كالبرق، كما هو الحال في استهلال «الإلياذة»، إلا أن هوميروس لا يقع أبدا تحت ضغوط تدفعه إلى إغفال أي شيء. إنه يطيل أمد قصته، كما لو كان لديه متسع كبير من الوقت. وكانت هذه النزعة تصب في مصلحة وجهة نظر المحللين القدماء، الذين أبصروا حالات انحرافات عن إطار السرد المثالي المنتظم الخالي من العوائق نتيجة تراكم، أو حشو، أو تنقيحات لاحقة. ولا يملك القراء المعاصرون، الذين تربوا على مشاهدة التليفزيون، الصبر إزاء هذا النوع من وسائل السرد ويرون أن الكتب التي تحتويها «الإلياذة» والتي تتناول المعارك هي كتب تتسم بالرتابة والطول المفرط. فلا يمكن للقارئ أن يستمتع بسلسلة الحكايات المختلقة التي يرويها أوديسيوس في النصف الثاني من «الأوديسة» إلا من خلال الحب الخالص للسرد بأي شكل من الأشكال. فمن دون هذه القصائد لم يكن يمارس أي ضغط على الشاعر لتكثيف سرده، بل على العكس تماما!
يمتزج التأني المفرط، الذي من خلاله يستطيع الشاعر أن يروي قصته، مع نفور من التشويق، وهو ما يعد أحد الأدوات المفضلة للروائيين المعاصرين. على سبيل المثال، عندما تستهل بينيلوبي مسابقة القوس، يصرح أنطونيوس الخاطب الرئيسي بألا أحد من الحاضرين ند لأوديسيوس، ولكنه يأمل في سريرته أن يستطيع هو نفسه أن يشد وتر القوس. لسنا بحاجة للتساؤل بشأن ما إن كان سيفلح، أو ما سيكون إليه مآل أنطونيوس المختال بنفسه؛ لأن هوميروس يخبرنا بما سوف يحدث:
هكذا تكلم، ولكن قلبه الذي بين أضلعه كان يأمل أن يستطيع أن يثني وتر القوس ويطلق سهما عبر حديد القوس. بيد أنه في الواقع سيكون أول من يذوق سهما من يد أوديسيوس النبيل، الذي كان يدنس سيرته بلسانه بينما كان يجلس في الردهات يحرض رفاقه. (الأوديسة، 21، 96-100)
وعلى نفس المنوال، في مشهد شهير تكتشف المربية العجوز أوريكليا الندبة المميزة على فخذ أوديسيوس التي تشي بهويته. يلحق هوميروس بهذا المشهد الذي يتناول التعرف أطول حوار جانبي في كلتا القصيدتين، وهو تفسير لكيفية إصابته بالندبة أثناء صيد للخنازير البرية، بل وكيف منحه جده لأمه اسمه الذي يحمله. وبينما تمسك أوريكليا برجله، وهوميروس يفسر مصدر الندبة، ولا نتساءل بتلهف عما إن كانت ستتعرف على المتسول وتعرف أنه سيدها؛ لأن أول شيء يطلعنا عليه هوميروس هو أنها تتعرف عليه بالفعل:
وهكذا دنت وبدأت تغسل [قدمي] سيدها. وعلى الفور تعرفت على ندبة الجرح الذي أصابه به خنزير بري بنابه الأبيض منذ زمن بعيد ... (الأوديسة، 19، 392-393)
ليست مسألة «ما الذي سيحدث بعد ذلك؟» هي ما يشغل بال الجمهور وإنما إعادة الصياغة الدرامية المتأنية لعالم بأكمله: الناس الذين يعيشون فيه، وما يفكرون فيه ويقولونه، والاختيارات التي يتخذونها، وأوجاعهم وأفراحهم، والأحداث التي تحل بهم؛ فالشعر يأخذنا إلى عالم بديل، نرغب في أن نكون فيه.
ولا عجب في كون أسلوب متمهل كهذا مواتيا للتوصيفات الدقيقة للأشياء والأحداث. على سبيل المثال، عندما يستعد بريام في الكتاب الرابع والعشرين من «الإلياذة» لزيارة المعسكر اليوناني، يجهز الخدم عربته:
ثم أنزلوا نير البغال من الوتد الخشبي، وهو ذو رأس مستديرة، ومزود بالحلقات كي يمر منها اللجام. وكذلك أحضروا سيرا من الجلد بطول تسعة أذرع، وبه ثبتوا النير جيدا فوق العريس المصقول، من خلال الحلقات الأمامية؛ وذلك بوضع الحلقات في وتد خشبي، ثم ربطها ثلاث مرات من الجانبين فوق سرة النير، وبعد تثبيتها جيدا صنعوا عقدة في نهاية السير الجلدي. (الإلياذة، 24، 268-274) [ترجمة عادل النحاس، المركز القومي للترجمة (بتصرف يسير)]
في كتب المعارك في «الإلياذة» تظهر توصيفات مفصلة كثيرة للموت المروع:
अज्ञात पृष्ठ