لا يمكننا أن نتتبع تفصيلا التفاعل بين هوميروس وبين شعراء التفعيلة السداسية والشعراء الغنائيين الذي اتبعوه في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. أولا، إن آثار هؤلاء الشعراء هي عبارة عن شذرات ضئيلة طفيفة، ولكنها غالبا ما تكون طيبة. ثانيا لسنا متيقنين على الإطلاق مما تعنيه الإشارة إلى «قصائد هوميروس» في هذا الوقت؛ لأنه إلى جانب «الإلياذة» و«الأوديسة» نسبت قصائد عديدة إلى هوميروس، مثال ذلك بعض من «التراتيل الهوميرية» (مؤلفوها الحقيقيون مجهولون) وبعض القصائد الملحمية الأخرى.
نعلم أن زينوفانيس الأقدم (الذي كان يكتب نظما) أخذ هوميروس بجريرة فكره اللاهوتي العبثي، كما رأينا، وأن أقدم (أو شبه أقدم) كاتب نثري يوناني وهو هيرودوت (حوالي 484-424 قبل الميلاد) كان يحاول بالفعل أن يفصل الحقيقة عن الخيال في الأعمال التراثية المتعلقة بهوميروس. فهو ينكر تأليف هوميروس للقصيدة المنتمية إلى دائرة الملاحم التي يطلق عليها على نحو غامض «السبريا (الملحمة القبرصية)»، و«قصيدة أفروديت» (؟) اللتين تتناولان الأحداث التي أدت إلى ظهور «الإلياذة» (كتاب «التاريخ» لهيرودوت، 2، 117). وعلى أي حال تنسب مصادر أخرى «السبريا» إلى ستاسينوس القبرصي (أوائل القرن السابع قبل الميلاد؟) نفى هيرودوت أيضا تأليف هوميروس لقصيدة عن دمار طيبة تدعى «إبيجوني» (وتعني «التابعين»، ويطلق عليهم هذا الاسم لأنهم كانوا ينتمون إلى الجيل التالي لأولئك الذين قاتلوا في معركة السبعة الكارثية ضد طيبة: 4، 117). ولا أقل من أن ينسب أرسطو لهوميروس قصيدة هزلية ساخرة مفقودة نظمت على وزن سداسي ممزوج بأبيات إيامبية (الإيامبية هي تفعيلة ذات مقطعين أولهما قصير والثاني طويل وهكذا) وتلك القصيدة تسمى «مرجيتس» (وتعني «الأبله») نسبة إلى بطلها الأحمق (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القسم 1448ب). ينشأ مثل هذا الانتحال وتلك الإسنادات الباطلة مباشرة من دور هوميروس المحوري في التعليم اليوناني، ومن الجائز أن يكون ذلك منذ لحظة اختراع الأبجدية، حينما شكلت نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، أو مقتطفات منها، على ما يبدو، أساس الدراسة. ولما كانت «الإلياذة» و«الأوديسة » أول نصوص أبجدية، وكانتا ذاتي وزن سداسي، نسبت نصوص أخرى منظومة على وزن سداسي إلى «هوميروس» بطبيعة الحال، ولكن بالقطع ليست كلها. ففي أغلب الأحيان نسبت قصائد دائرة الملاحم الست إلى آخرين: فنسبت «السبريا» إلى ستاسينوس، في حين نظم أركتينوس من ميليتس قصيدة «إثيوبيس» (قصة البطل ممنون) و«خراب طروادة» (حوالي 650 قبل الميلاد؟) ونظم لسكيس (أو: لسشيس) «الإلياذة الصغرى» (حوالي 675 قبل الميلاد؟) التي يبدو أنها تحوي قصصا مستفيضة عن نهاية المدينة، ونظم أجياس من ترويزينيا (في شبه جزيرة بيلوبونيز) «العودة للوطن» («النوستوي»، حوالي 600 قبل الميلاد؟) وتشتمل على قصة مقتل أجاممنون، ونظم يوجامون السيريني «التليجونيا»، التي تتابع من حيث تتوقف «الأوديسة» (حوالي 560 قبل الميلاد؟).
لا نعرف الكثير بشأن قصائد دائرة الملاحم؛ فقد كتب البقاء لملخصات في كتابات فيلسوف من القرن الخامس الميلادي من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة (برقلس، 412-485)، أما بخلاف ذلك فلا يصل إلينا إلا أبيات متناثرة. والأهم من كل ذلك أننا لا نعرف موقف هذه القصائد إزاء «نصوص» القصائد الهوميرية؛ فرغم ما يبدو من أنها تملأ فجوات خلفتها «الإلياذة» و«الأوديسة» في سرد الملحمة الكاملة لطروادة، ورغم أن اليونانيين أنفسهم فهموا قصائد دائرة الملاحم على هذا النحو، فمن المحتمل أن يكون بعض هذه القصائد أو كلها قد دون بمعزل عن أي معرفة بنصوص قصائد هوميروس. قد تكون قصيدة واحدة، وهي التي تعرف باسم «الإلياذة الصغرى»، قد كررت أحداثا في ملحمة «الإلياذة» الطويلة التي لا تزال باقية، ومن الممكن أن نكون متأكدين من وجود تداخلات مع قصائد أخرى من دائرة الملاحم. إننا نملك معلومات ضئيلة مما لا يسمح لنا بالتوصل إلى استنتاجات موثوقة عن العلاقة بين نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، التي كتب لها البقاء، ونصوص قصائد دائرة الملاحم، التي لم يكتب لها القدر أن تصل إلى زمننا هذا.
إننا نحصل على أفضل المعلومات لدينا عن منزلة هوميروس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد من بندار (حوالي 522-443 قبل الميلاد)، الذي بقي من مجموعة كتاباته التي كانت غزيرة فيما مضى مجموعة من القصائد ما زالت تحتفظ بأهميتها، والتي نظمت لرقص الجوقة احتفالا بالفائزين من الرياضيين. إن بندار يفصله ثلاثمائة سنة عن اختراع الأبجدية اليونانية، وفي جيله، أو في فترة قريبة منه، اختفى آخر المنشدين الملحميين. كان الشعر في زمن بندار قد صار لفترة طويلة يصاغ كتابة على ألواح من الشمع وعلى البردي. وكان يعاد إنتاج النسخة المكتوبة على البردي إلى نسخ متعددة كان أعضاء الجوقة، الذين قد يصل عددهم إلى خمسين، يحفظون منها الأغنية. ولكن تعليم بندار، شأنه شأن تعليم أي يوناني، كان يقوم على قراءة «شعر هوميروس».
يشير بندار إلى هوميروس ثلاث مرات بالاسم بينما يشير مرة واحدة إلى الهوميروسيين، سليلي هوميروس، وهي المرة الأولى التي نسمع فيها عنهم. للأسف لا نعرف أي شيء آخر عن الهوميروسيين ولا يمكننا أن نستنتج من الاسم إن كانوا ينحدرون من نسل هوميروس، أم إنهم فقط سموا بهذا الاسم تيمنا به. يتصور الغالبية أنهم كانوا يملكون نسخا قديمة من النصوص الكاملة «للإلياذة» و«الأوديسة». ربما يكون بيسيستراتوس قد اقتنى نسخا منهما في أواسط القرن السادس قبل الميلاد لمهرجانه المسمى بمهرجان عموم أثينا، الذي كانت القصائد تلقى فيه.
في إحدى القصائد («القصيدة النيمية» 7، 20-30) يستأنف بندار تقليد النقد الهوميري بتصحيحه للرواية الهوميرية صراحة؛ إذ يرى أن أوديسيوس يحوز شهرة أكثر مما يستحق «بفضل هوميروس وكلماته العذبة»، ولولا قدرة «البراعة» (Sophia)
على تضليل «القلب الأعمى» للبشر، لكانت دروع آخيل قد ذهبت إلى أياس، الذي كان يستحقها، وليس إلى أوديسيوس. يشير بندار إلى حادثة رويت في «الإلياذة الصغرى» وذكرت في مشهد العالم السفلي في الكتاب الحادي عشر من «الأوديسة»؛ إذ إن فصاحة أوديسيوس جعلته يفوز بدروع آخيل متغلبا على أياس الأقوى. وقوة الشعر، التي تشير إليها كلمة «البراعة»، وقدرته على التعتيم على الحقيقة مصرح بها بالفعل في قصيدة هيسيود «ثيوجونيا» (26-28)، حينما تدعي الميوزات امتلاكهن لنفس هذه المقدرة. ووجهة نظر بندار أن المهارة الرياضية، التي يثني عليها، ينبغي أن تسبق البراعة بالكلمات، التي يستخدمها في الثناء على المهارة الرياضية!
كانت قصائد دائرة الملاحم الأقصر، التي دونت إملاء من المنشدين الملحميين في القرنين السابع والسادس وربما حتى القرن الخامس قبل الميلاد، التي تضم موضوعات طروادية أو قصائد تدور حول خراب مدينة طيبة ذات البوابات السبع، معروفة لدى يونانيي الحقبة القديمة على نحو أفضل من «الإلياذة» أو «الأوديسة» وكانت مصدر إلهام للكثير من المشاهد المعتادة على الآنية الفخارية اليونانية ذات الرسوم. عندما قال إسخيلوس (حوالي 525-456 قبل الميلاد) إن مسرحياته كانت «شرائح من وليمة هوميروس» (أثينايوس 8، 347ه)، كان يقصد أنه كان يسرق حبكات من هذه القصائد، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة»، اللتين كان اهتمام إسخيلوس بهما ضئيلا. في إحدى الثلاثيات (مجموعة من ثلاث مسرحيات)، قدم إسخيلوس بالفعل للجمهور قصة نزاع آخيل، ومنحه لدروعه المرسلة من السماء، وافتداء هيكتور، ولكن لم تعتمد أي مسرحية أخرى من مسرحياته الثمانين على «الإلياذة» أو «الأوديسة». سوفوكليس ويوربيديس أيضا أخذا حبكاتهما من قصائد دائرة الملاحم ودائرة ملاحم طيبة، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة». ولعل أحد الأسباب وراء ذلك أن الملاحم الطويلة كان لها بالفعل مكانتها الخاصة في مهرجان عموم أثينا، والسبب الآخر أن هذه القصائد الطويلة احتوت على عدد قليل من القصص الملائمة لوضعها في قالب درامي، وهو ما لوحظ لأول مرة من قبل أرسطو (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القسم 1451أ).
إن المحاكاة هي إحدى مكتسبات تقليد يعرف القراءة والكتابة معرفة تامة، و«الإلياذة» و«الأوديسة» شاسعتان وهائلتا الحجم على نحو لا يشجع على المحاكاة المباشرة. ولماذا تفعل ذلك؟ لوقت طويل، لم يفعل أحد ذلك. عندما يحاكي المرء في الأدب، يكون الهدف أن يفهم القارئ أن ذلك هو ما تفعله. ثمة كلمة منمقة للدلالة على المحاكاة الهادفة هي «التناص»، التي تعني أنك عندما تقرأ كتابا، تفكر بآخر. لا يوجد «تناص» في التقليد الشفاهي؛ لأنه ليس ثمة نصوص. وأول ما نجد التناص نجده في أثينا في القرن الخامس ، حيث كان الترفيه شفاهيا ولكنه يقوم على نصوص كانت متداولة في المدارس، حيث كانت تدرس تلك النصوص وتحفظ. ولذلك كان في مقدور أرسطوفانيس، عملاق الكوميديا الأثينية القديمة، أن يضع محاكاة ساخرة لبيت شعري ليوربيديس يقال في مسرحية أديت مرة واحدة فقط قبل أعوام ويظل يتوقع أن ينتزع ضحكات جمهوره.
في القرن الثالث قبل الميلاد عاش أبولونيوس الرودسي - مؤلف ملحمة «أرجونوتيكا»، التي تتناول قصة جيسون - في عالم بالغ الصعوبة في مدينة الإسكندرية، بمصر. أحاطت الأسوار المصنوعة من الطوب اللبن بساحات البلاط الأرستقراطي حيث كان هوميروس يعزف على قيثارته وينظم إنشاده بالاستعانة بأسلوب الصياغة الشفاهية. لم يعزف الرابسوديون على أي آلة موسيقية، ولكنهم كانوا يلقون أشعارهم في المهرجانات العامة ممسكين في أيديهم عصا، أو
अज्ञात पृष्ठ