<83> قال الحبر، بل الأمر أهول، كان بني إسرائيل مستعبدين بمصر ست مائة ألف رجل ممن كان فوق العشرين عاما، مسمين منتسبين إلى اثنا عشر سبطا، لم يشذ منهم شاذ، ولا فر إلى بلد آخر، ولا داخلهم غريب، منتظرين وعدا وعد به أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ע"ה أن يورثهم بلد الشام، والشام حينئذ بيد سبع أمم في غاية الكثرة والقوة والإقبال. وبنو إسرائيل في غاية الذلة والشقاء مع فرعون، يقتل أولادهم كي لا يكثروا. فأرسل موسى وهارون ע"ה على ضعفهما، وواقفا فرعون على قوته، بالآيات والمعجزات وخرق العادات، ولم يقدر أن يحتجب عنهما، ولا ان يأمر فيهما بسوء، ولا أن يحجب نفسه عن الآفات العشر الحالة بأهل مصر، في مياههم، ثم في أرضهم، ثم في هواءهم وفي نباتهم وفي حيوانهم وفي أبدانهم، ثم في نفوسهم إذ مات في طرفة عين شطر الليل أجل من كان في منازلهم، وأحبهم إليهم كل ولد بكر، ولا دار دون ميت، حاشا دور بني إسرائيل. وكل هذه الآفات تنزل بهم بإذن وأنذار ووعد وترتفع بإذن وانذار، بحيث يعتقد أنها مقصودة من إله مريد، يفعل ما شاء متى شاء، لا طبيعية ولا نجومية ولا اتفاقية. فخرج بنو إسرائيل بأمر الله في تلك القلزم وقائدهم عامود غمام وعامود نار، سائر أمامهم، ومدبرهم وسائسهم وأمامهم الشيخان الإلهيان موسى وهارون ע"ה، كانا حين اتاهما النبوة ابني ثمانين ونيف. وإلى الآن ليس عندهم شرائع إلا قليلة موروثة عن أولئك الأفراد من لدن آدم ونوح، ولم ينسخها موسى ولا فسخها، لكن زاد عليها. ثم تبعهم فرعون فلم يلجوا إلى سلاح، ولا كان القوم ممن يدري الحرب. فشق البحر وغازوه وغرق فرعون وحشره، وقذف بهم البحر إلى بني إسرائيل أمواتا، حتى رأوهم عيانا والخبر طويل مشهور.
<84> قال الخزري، هذا هو الأمر الإلهي حقا، وما اقترن به من الشرع واجب قبوله، إذ لا يداخل القلب منه شك من سحر أو حيلة أو تخيل لو خيل لهم بحر وانشقاقه وغزاهم فيه، كيف يخيل لهم نجاتهم من العبودية وموت مستعبديهم وأخذهم لبسهم وبقاء أموالهم بأيديهم، هذا تعسف من المتزندقة.
<85> قال الحبر، وبعد هذا إذ حصلوا في التيه حيث لا زرع، أنزل عليهم طعام مخترع مخلوق يوما يوما، حاشا يوم السبت، أكلوه طول أربعين عاما.
<86> قال الخزري، وهذا أيضا لا مدفع فيه، ما يدوم أربعين عاما لست مائة ألف رجل وتوابعهم، ينزل ستة أيام ويرتفع في السبت. فالسبت واجب قبوله إذ صار الأمر الإلهي كالملازم له.
<87> قال الحبر، السبت مؤكد من هذا ومن خلقة العالم في ستة أيام وما سأذكره. وذلك إن القوم مع إيمانهم بما يأتي به موسى ע"ה بعد هذه المعجزات بقي في نفوسهم شك كيف يخاطب الله البشر، كي لا يكون مبدأ الشريعة من رأي وفكرة من قبل الإنسان يصحبه الهام وتأييد من عند الله، إذ كانوا يستبعدون الخطابة من غير بشر، إذ الخطابة جسمية، فأراد الله إزاحة هذا الشك عندهم وأمرهم بالتزام بالباطنة والظاهرة. وجعل أوكدها اعتزال النساء والتهيؤ والتأهب لسمع كلام الله، واستعد القوم وتأهبوا لدرجة الوحي، بل لسماع الخطاب جهرا كلهم. وكان ذلك بعد ثلاثة أيام، بمقدمات هول عظيم من بروق ورعود وزلازل ونيران حفت بالمسمى طور סיני، وبقيت تلك النار طول أربعين يوما على الجبل، يراها القوم، ويرون موسى داخلا إليها وخارجا عنها، وسمع القوم الخطاب فصيحا بعشر كلمات هي اماهة الشرائع وأصولها. إحداها الأمر بالسبت. وقد كان تقدم الأمر به مقرونا بنزول المن. فهذه العشر كلمات لم ينقلها الجمهور عن رجال أفراد، ولا عن نبي، لكن عن الله. ولكن لم تكن لهم قوة موسى ע"ה لمشاهدة ذلك الأمر العظيم، وأمن القوم من ذلك اليوم بأن موسى ע"ה مخاطب بكلام مبدؤه من الله، لم يتقدم لموسى ע"ה فيه فكرة ولا رأي، كي لا تكون النبوة كما تزعم الفلاسفة من نفس تصفو أفكارها وتتصل بالعقل الفعال المسمى بالروح القديس أو بجبرائيل فيلهم. وربما خيل إليه في ذلك الوقت في النوم أو بين النوم واليقظة أن شخصا يكلمه، ويسمع كلامه خيالا بنفسه لا بأذنيه. ويراه بوهمه لا بعينه، فيقال حينئذ إن الله كلمه، فانتفت هذه الظنون بهذا المشهد العظيم. وما تبع الكلام الإلهي من كتاب إلهي إذ رسم هذه العشر كلمات في لوحين من جوهر رفيع، ودفعهما إلى موسى ע"ה ورأوها كتابا إلهيا كما سمعوها خطابا إلهيا، وعمل لها موسى ע"ה بأمر الله تعالى تابوتا وأقام عليها القبة المشهورة، وبقي ذلك بين بني إسرائيل طول دولة النبوة نحو تسع مائة سنة، حتى عصا القوم، فاختفي التابوت، وظفر بهم بختنصر وأجلاهم.
<88> قال الخزري، إن من يسمع كلامكم أن الله خاطب جمهوركم وكتب لكم ألواحا وغير ذلك، لمعذور أن ينسب إليكم رأي التجسيم، وأنتم معاذير أيضا إذ لا مدفع في هذه المشاهد العظيمة الجليلة الظاهرة وتعذرون في اطراح القياس والنظر العقلي.
<89> قال الحبر، وأعوذ بالله من المحال وما ينفيه العقل ويضعه محالا، وأول العشر كلمات هو الأمر باعتقاد الربوبية. والثاني من الكلمات هي النهي عن اتخاذ إله دون الله تعالى، وعن الإشراك به، والنهي عن التشبيه والتمثيل والتخييل، وبالجملة عن التجسيم، وكيف لا ننزهه عن التجسيم ونحن ننزه كثيرا من مخلوقاته عن ذلك، كالنفس الناطقة التي هي الإنسان على الحقيقة. فإن الذي يخاطبنا من موسى ويعقل ويدبر، ليس ذلك لسانه ولا قلبه ولا دماغه، بل هذه الات لموسى. وموسى نفس ناطقة مميزة ليست جسما ولا تتحيز في مكان ولا يضيق عنها مكان ولا نضيق هي عن أن تحصل فيها صور جميع المخلوقات فنصفها بأوصاف ملكوتية روحانية، فضلا عن خالق الكل، وإنما علينا أن لا ندفع ما تواتر من ذلك المشهد، ثم نقول لا ندري كيف نجسم المعنى حتى صار كلاما وقرع أذاننا، ولا ما اخترع له تعالى مما لم يكن موجودا، ولا ما سخر له من الموجودات إذ لا تعجزه قدره كما نقول أنه تعالى خلق اللوحين وكتبهما كتب نقش كما خلق السماء والكواكب بمشيته فقط، شاء الله تعالى فتجسم بالمقدار الذي شاء، وعلى الهياه التي شاء، وانتقش فيها الخط بالعشر كلمات، كما نقول أنه شق البحر، وصيره أسوارا وأقفه عن يمين القوم وعن شمالهم، وأزقه مرتبة واسعة، وأرضا وطية يمشون فيها دون تكلف ولا تخلف، وذلك الشق والبنيان والاتقان منسوب اليه تعالى، لم يحتج فيه إلى آلة وأسباب متوسطة كما يحتاج في فعل المخلوقين، فإن الماء وقف لأمره وتشكل بمشيته، هكذا يتشكل الهواء الواصل إلى أذن النبي بأشكال الحروف التي تقتضي المعاني التي يريد الله ان يسمعها النبي والجمهور.
<90> قال الخزري، هذا توجيه مقنع.
<91> قال الحبر، ولست أجزم ان الأمر على هذه الصفة، ولعله على طريق أغمض من ان أتخيلها، لكن الحاصل من هذا تحقق من شاهد المشاهد ان الأمر من قبل الخالق دون واسطة، إذ هي مماثلة للاختراع والأول والخلقة الأولى، فيحصل في النفوس الايمان بالشرع المقترن بها، مع الايمان بأن العالم حادث هكذا خلقه، كما ترون أنه اخترع اللوحين والمن وغير ذلك، وتزول من نفس المؤمن شكوك الفلاسفة والدهرية.
<92> قال الخزري، أنظر يا حبر لا تصحبك هواده في وصف محامد قومك، وتترك مشهور عصيانهم مع هذه المشاهد، فإني سمعت ان في اثنى هذا اتخذوا عجلا وعبدوه دون الله.
अज्ञात पृष्ठ