واعترفت قائلة: والحق أني لم أكن سلبية في المعركة، وأنت تعلم ذلك.
فاستخفه الطرب وقال: اعتبريني مجنونا بك!
فخفضت بصرها وهمست: وأنا سعيدة كما يجدر بإنسان يبادلك مشاعرك!
فاجتاحه السرور والإلهام وقال: ما كان أحب إلي أن أتلقى هذه السعادة في مكان لا يشاركنا فيه أحد.
وضحكا معا. وصمتا وهما يتبادلان النظرات. واقترح عليها الذهاب إلى حديقة ما. وقاما وهي تقول: لا تنس أنه توجد في الطريق متاعب.
فهز منكبيه قائلا: أعتقد أنها متاعب لا تذكر بالقياس إلى متاعب العالم.
2
انتصف الليل، فخلا مقهى الانشراح بشارع الشيخ قمر من زبائنه. لم يبق من عماله إلا عم عبده بدران النادل، وعشماوي ماسح الأحذية. ومضى عشماوي بهيكله الضخم الخاوي إلى الخارج، فجلس القرفصاء جنب مدخل المقهى ينظر إلى لا شيء بعينيه العمشاوين. أما عم عبده فاقتعد كرسيا وسط المدخل، وأشعل سيجارة. وبعد ربع ساعة مرقت سيارة مرسيدس بيضاء أمام المقهى، ثم وقفت على مبعدة يسيرة لصق الطوار، فرفع عشماوي رأسه نحوها وهو يقول: الأستاذ حسني حجازي.
وقام عم عبده بدران ليستقبل القادم، الذي أقبل بجسمه الطويل النحيل، ورأسه الضخم رافلا في بدلة بيضاء آية في الأناقة. حيا الرجلين باسميهما، واتخذ مجلسه، على حين مضى عم عبده ليجيئه بالنارجيلة، وزحف عشماوي ناحيته ليمسح حذاءه. ولأن حسني حجازي هو زبون ما بعد منتصف الليل الوحيد - كلما سمح له الوقت - فقد نشأت بينه وبين الرجلين علاقة حميمة، وحوار متبادل. والحق أنه يأنس إلى وقار عم عبده - في الستين من عمره - ويعجب ببذلة عمله العتيقة، وصلعته المستديرة الضاربة للاحمرار، ونظرة عينيه الثقيلة الطيبة. وأيضا فهو يعجب كثيرا بعشماوي الذي لا يعرف له سن، وإن قدره بما بين السبعين والثمانين، ويثيره منظر هيكله الضخم الخاوي كحفرة متبقية من زمن الفتونة، ويحيي بكل إجلال صموده في معترك الحياة، رغم هوان الصحة والسمع والنظر وزوال المجد. وكان عم عبده يعنى بنارجيلة الأستاذ عناية خاصة. لا من أجل البقشيش فحسب، ولكن لعلمه بأنها السر وراء زيارات الأستاذ للانشراح، بالإضافة إلى حنينه إلى مسقط رأسه بشارع الشيخ قمر. والأستاذ حسني في الخمسين، ولكنه يفيض بحيوية عجيبة، ولم تشب له شعرة واحدة، ويبدو أنه يسعد حقيقة بوجوده في المقهى المتواضع بين صاحبيه، وفي مناجاته الطويلة مع النارجيلة. وكالعادة بدأ الحديث بتبادل النيران في الجبهة، وتساؤلات عن الغد القريب والبعيد، وكلمات رقيقة بقصد الاطمئنان على إبراهيم ابن عم عبده، وغيره من المجندين من أهل درب الحلة موطن عشماوي. وكان يعتبر عشماوي نموذجا لجماهير غفيرة لا يتاح له الاتصال بها، هي المتحمسة حقا للقتال بلا قيد ولا شرط، وبلا خوف، وبلا اكتراث للعواقب. وقال لنفسه علام يخافون وهم لا يملكون إلا الكرامة والأسطورة؟ وقال لنفسه أيضا إن المعذبين حقا هم الوطنيون الصادقون. ولما فرغ عشماوي من مسح الحذاء اقترب عم عبده بدران من مجلس الأستاذ ومال نحوه قليلا وهو يقول: عليات ابنتي طلب يدها شاب من زملائها.
فانبعث في صدر الأستاذ اهتمام حقيقي، وقال: مبارك يا عم عبده.
अज्ञात पृष्ठ