كانت شقتنا مكونة من غرفتين كبيرتين وحجرة صغيرة للمهجع، وكنا قد استأجرناها مؤثثة، لكن الشقق في مثل هذه المناطق لم تكن مؤثثة بالمعنى المتعارف عليه؛ إذ اشتملت شقتنا على أثاث بال. فأنا أتذكر أرضية غرفة المعيشة التي كانت مغطاة ببواقي مشمع جاء تصميمه على هيئة مربعات ومستطيلات؛ فاجتمعت فيه كل الألوان والتصميمات المختلفة والتحمت معا فبدت أشبه بلحاف عجيب به شرائط لامعة. وكذلك الموقد الذي يعمل بالغاز الطبيعي كان باليا؛ كان يلقم العداد الملحق به بعملات معدنية حتى نستطيع تشغيله. أما الفراش، فكان في فجوة في الجدار المقابل للمطبخ، وكان موضوعا بإحكام داخل الجدار، لدرجة أننا كنا نقفز إليه من موضع الأقدام لننام. وقد قرأ تشيس ذات مرة أن تلك الطريقة هي التي كانت تصعد بها فتيات الحريم إلى فراش السلطان، ليمسدن قدميه في البداية، ثم يتقدمن ببطء لأعلى للعناية بسائر أجزاء جسمه؛ ولذا كنا نلعب هذه اللعبة أحيانا.
دوما ما كنا نسدل الستار على الفراش عند موضع الأقدام، حتى نفصله عن المطبخ. وفي واقع الأمر، كان الستار مفرش سرير قديما من نسيج غير متماسك له أهداب، لونه بيج ضارب إلى الصفرة من أحد الجانبين، ويعلوه تطريز لورود حمراء وأوراق شجر خضراء. أما الجانب الآخر المقابل للفراش فكان مزينا بشرائط حمراء وخضراء، وزهور ونقوش لأوراق شجر تبدو كأشباح على الخلفية البيج. ذاك الستار هو أكثر ما أتذكره في الشقة بوضوح، ولا عجب في ذلك. فقد كان يتمدد أمام ناظري في فورة الجنس وخلال ما يعقبه من شعور بالإشباع، وأصبح يذكرني بما أحببته في الزواج؛ بالجائزة التي عانيت من أجلها مهانة كوني العروس الصغيرة، وتحملت الرهبة المرتبطة على نحو عجيب بخزانة الأواني الخزفية.
نشأت أنا وتشيس في بيوت ترى الجنس خارج إطار الزواج مقززا ولا يمكن التسامح معه، أما الجنس في إطار الزواج فلم يكن يذكر البتة وسرعان ما كان يذهب طي النسيان. كنا على وشك النظر إلى الأمور بالطريقة نفسها، لكننا لم نكن نعرف ذلك؛ فعندما وجدت والدة تشيس واقيات ذكرية في حقيبته، هرعت إلى أبيه باكية (وقد قال تشيس إنها وزعت عليه عندما كان في المعسكر يؤدي التدريب العسكري الذي أرسلته إليه الجامعة - وكان هذا حقيقيا - وأنه قد نسي وجودها في الحقيبة، وهو ما كان كذبا)؛ لذا فقد كان امتلاكنا لمكان خاص وفراش خاص نستطيع أن نمارس فيه الجنس كما يحلو لنا أمرا بديعا. وكانت صفقة رابحة عقدناها، لكننا لم يخطر ببالنا قط أن من يكبروننا سنا - آباءنا وأعمامنا وأخوالنا وعماتنا وخالاتنا - قد أقبلوا على الصفقة ذاتها تلبية لرغباتهم الجنسية. فقد بدا لنا أن حاجتهم الأساسية كانت للمنازل والممتلكات وماكينات جز الأعشاب والمجمدات والجدران الساندة للمنشآت. وبالطبع، بالنسبة إلى النساء، كن يملن نحو إنجاب الأطفال. كانت كل هذه الرغبات هي ما فكرنا في اختيارها أو عدم اختيارها في المستقبل، ولم نفكر قط أنها ستداهمنا لا محالة كالعمر أو الطقس مثلا.
والآن حين أفكر في الأمر بصدق مع نفسي أجد أنها لم تفعل؛ فلم يحدث أن داهمنا شيء دون أن نختاره؛ حتى الحمل كذلك؛ إذ خضنا مخاطرته لسبب واحد؛ أن نتأكد أننا نضجنا بالفعل، ونرى إذا ما كان الحمل ممكن الحدوث.
الأمر الآخر الذي كنت أفعله خلف هذا الستار هو القراءة؛ كنت أقرأ الكتب التي أحضرها من مكتبة كيتسيلانو التي تبعد عنا مسافة بضعة مربعات سكنية. وعندما كنت أبعد ببصري عن الكتاب وأنا في حالة من الإثارة الممزوجة بالدهشة التي تكسبني إياها القراءة - حالة الانتشاء التي أقع تحت تأثيرها بعد أن أقتني من الكتب الغالي والنفيس - تقع عيناي على شرائط الستار. وخلال هذا، تمتزج الشخصيات والقصة بل وكذلك روح الكتاب مع الزهور المطرزة، وتتدفق مع تيار النبيذ الأحمر الغامق، ممثلا في شرائط الستار، أو الأوراق الخضراء الداكنة. قرأت الكتب الكبيرة التي كانت عناوينها مألوفة بالنسبة إلي على نحو سلبني عقلي - بل إنني حاولت قراءة رواية «الخطيبان» - وقرأت فيما بينها أيضا روايات ألدوس هكسلي وهنري جرين ، وروايات «إلى الفنار» و«نهاية شيري» و«موت القلب». كنت أستزيد من هذه الكتب، واحدا تلو الآخر، دون أن أفضل هذا على ذاك، فأسلم نفسي لكل في دوره، تماما كما كنت أقرأ الكتب في طفولتي. وخلف الستار، كنت لا أزال في تلك المرحلة من الاشتهاء المتزايد، والنهم الأقرب إلى الألم.
لكن طرأ علي تغيير منذ طفولتي زاد الأمر تعقيدا؛ إذ بدا من الضروري أن أصير كاتبة إلى جانب كوني قارئة، فابتعت دفترا مدرسيا وحاولت الكتابة؛ وكتبت بالفعل. أبدعت في كتابة سطور قلائل في البداية، ثم جفت أحباري وكففت، فما كان مني إلا أن أمزق الأوراق وأعتصرها كنوع من العقاب الأليم، ثم ألقيها في سلة القمامة. فعلت ذلك مرات ومرات حتى لم يتبق من الدفتر سوى غلافه. ثم ابتعت دفترا جديدا وكررت المحاولة مرة أخرى، ولففت بالدائرة نفسها: إثارة ثم يأس، إثارة ثم يأس، وهكذا دواليك. فكان الأمر أشبه بحمل وإجهاض سريين يحدثان بصفة أسبوعية.
لكن أمري لم يكن سريا بالكامل؛ فقد كان تشيس على علم بأنني كثيرة القراءة ولي محاولات في الكتابة. لم يحاول أن يثبطني على الإطلاق، بل رأى أنه من المنطقي فعل ذلك، وربما يمكنني تعلمه. صحيح أنه يتطلب ممارسة جادة، لكنه سهل الإتقان كلعبة البريدج أو التنس. لم أشكره على هذه الثقة العارمة، فلم تزد مأساتي إلا هزلا. •••
كان تشيس يعمل في متجر بقالة لبيع الجملة، غير أنه تمنى من قبل أن يصبح مدرسا لمادة التاريخ، لكن أباه أقنعه بأن دخل التدريس لا يكفي لإعالة زوجة وإحراز تقدم في الحياة. وكان أبوه هو من ساعده في العثور على هذه الوظيفة، لكنه أخبره أنه بعد أن ينال هذه الوظيفة عليه ألا ينتظر أي خدمات أخرى منه. وبالفعل لم يقدم غيرها. وخلال أول شتاء قضيناه معا بعد الزواج، كان تشيس يغادر المنزل قبل بزوغ الضوء ويعود مساء بعد أن يسدل الليل ستائره. كدح في عمله دون أن يبالي بما إذا كان عمله يلبي اهتماماته السابقة أو كان له هدف ذو شأن عظيم. ولم يكن له هدف سوى أن ينقلنا إلى حياة ننعم فيها بامتلاك ماكينات جز الأعشاب والمجمدات؛ وهي التي كنا نعتقد أنها لا تعنينا. كنت أتعجب من انصياعه وإذعانه كلما فكرت في إدارته لشئون حياته؛ ذلك الإذعان المبتهج، أو فلنقل: النبيل.
لكنني أدركت بعدها أن هذا هو ما يفعله الرجال. •••
خرجت أنا نفسي بحثا عن العمل؛ ففي الأيام التي لا يشتد فيها هطول الأمطار كنت أذهب إلى الصيدلية وأبتاع الجريدة لأطالع إعلانات الوظائف بينما أحتسي قهوتي. ثم أنهض وأبدأ رحلة البحث، حتى ولو كانت السماء تمطر رذاذا، فأتوجه نحو أماكن العمل حيث أشار الإعلان إلى الحاجة إلى نادلة أو بائعة أو عاملة في مصنع؛ أي وظيفة لا تشترط القدرة على الكتابة على الآلة الكاتبة أو الخبرة. أما إذا هطل المطر بغزارة، فكنت أستقل الحافلة. وذات مرة، نصحني تشيس بأن أستقل الحافلة دائما وألا أسير كي أوفر النقود؛ فبينما أنشغل بتوفير المال قد تنال فتاة أخرى الوظيفة.
अज्ञात पृष्ठ