كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
أبيلار وهيلوئيز
لم يكتب في فرنسا عن عاشقين أكثر مما كتب عن أبيلار وهيلوئيز؛ فقد ذكرت قصتهما بجملة صيغ مختصرة ومسهبة، حالية بصنوف الحواشي وعارية منها. ولا يقرأ قصتهما محب عاشق إلا ويتعزى بسيرتهما، وما قاساه كل منهما من الآلام في سبيل الآخر. ولا يزال قبر أبيلار يزار في باريس في كل عام، ينثر عليه المحبون أكاليل الزهور، ويترحمون عليه، ويذكرون بلاء حبيبته وإخلاصها، وفداحة الآلام والتعس والاضطهاد التي كابدها حبيبها.
ومن العبر التي يمكن القارئ أن يستخرجها من قصة هذين الحبيبين، أن الحب مهما ارتفع ورق، لا تزال جذوره سارية في حضيض، فإذا اقتلعت الجذور فسرعان ما تندك فوقها دوحة الحب، وقد جف ورقها وماتت أغصانها.
ولد أبيلار في غرب فرنسا في سنة 1079، وكان أبوه من الأشراف، ولكنه نزل عن حقوقه في ميراث الشرف لإخوته، وعزم على أن يقضي أيامه في خدمة العلم. وشخص إلى باريس، حيث قضى مدة قصيرة في طلب العلم، صار بعدها أستاذا يجذب إليه بفصاحته وحسن بيانه جمهور الطلبة الباريسيين.
وكان ذلك العصر أظلم عصور القرون المتوسطة، فكان التعليم في يد الكهنة جامدا لا يلين أمام الفكر، يعتمد على النقل. ويدور ويحور حول الدين. ولم يكن في الدين في ذلك الوقت فسحة للحرية الفكرية. وكان النظام الإفداني (الإقطاعي) منتشرا، ليس للأقطار سلطة مركزية ينفذ كلامها وترعى أوامرها، بل كان الأشراف يحكمون، كل منهم في إقليمه، يبني حصنه، وتنشأ المدينة أو القرية حوله، يحتمون به عندما تهيج الحرب ويغزو الشريف شريف آخر مجاور له. ولم تكن المسيحية أو القوانين المدنية قد هذبت بعد من أخلاق السكان؛ فقد كان لا يزال الدم الألماني يغلي فيهم، يطلب الغزو والنهب، فكانت الثارات لا تنقطع والهمجية فاشية، وكانت باريس إذا جنها الليل عاشت في شوارعها الذئاب. والخلاصة أن أوروبا كانت في حال الفوضى الأدبية والاجتماعية والسياسية.
وكان أبيلار يدعو في تعاليمه إلى إخضاع التقاليد للعقل، فهاج عليه لذلك زعماء القديم واضطهدوه، حتى اضطر إلى الهجرة من باريس، وأخذ يضرب في آفاق فرنسا ويعلم كلما وجد أرضا خصبة لبذوره.
وكان أبيلار عند عودته إلى باريس في الخامسة والثلاثين من عمره، شريف الطلعة، نشيط الجسم والذهن. وكان يؤلف الشعر ويلحنه على الأنغام الموسيقية. وفي هذا الوقت عرف فتاة في الثامنة عشرة تدعى هيلوئيز. وكانت قد حملت بها أمها سفاحا من أحد الأشراف، وقد عنيت بتربيتها وتخريجها على أيدي مهرة المعلمين، فكانت تعرف عدة لغات، وتعشق الشعر والموسيقى مثل أبيلار، وكان يراها من وقت لآخر، ويختلس النظرات منها في رواحها إلى بيت عمها وغدوها منه، حتى علقها، وهام بها، وصار حب العلم الذي كان قد تملكه إلى هذا الوقت شيئا باردا ميتا بجانب حرقة هذا الحب الجديد.
واحتال على عمها لكي يصل إليها، حتى عينه معلما لها، يوليها بالدروس ويشرف على تعليمها، فصار يزورها كل يوم، ويتدرج معها من الدروس الجافة من العبرانية والإغريقية، إلى السير والتاريخ، يحكي لها تجاربه الماضية، وما قيل من الأشعار، وما جد في الموسيقى. ويخرج من ذلك إلى ما يمس إحساسها من عواطفه، حتى بلغ قلبها، فرأى فيه مثل ما عنده، فكانا يقعدان إلى المائدة، وأمام كل منهما كتاب مفتوح يتعللان به، وكلاهما مشغول بصاحبه، حتى إذا تلاقى النظران شاع الخجل في كل منهما، فيعودان إلى الكتاب، وقد راعهما الارتباك والحياء. ثم تمس اليد اليد وكأن ذلك قد حدث سهوا، فتحصل الرجفة، تؤذن ببزوغ الحب، أو تخرج الزفرات من صدريهما على غير وعي منهما، فيعرف منها أبيلار كيف سرى في جسمها تيار الحب.
ولم يمض عليهما طويل زمن حتى تصارحا بالحب، وأسلمت هيلوئيز نفسها إليه، وكثرت ملازمة أبيلار لها حتى لحظ الناس ذلك، وأخذوا يتقولون. وحدث أن ألف أبيلار مقطوعة غرامية عنها، فوقعت في أيدي أعدائها، الذين بادروا إلى عمها بها، فهاج هائج عمها، الذي لم يكن قد دخله أي شك قبلا فيهما، وأمر بطرده من البيت، ومنع هيلوئيز من لقائه.
अज्ञात पृष्ठ