لها ما تشتهي عسلا مصفى
إذا شاءت وحواري بسمن
قلت: «هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسما آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحدا، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئا من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها.» قال: أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحدا، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب.
فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت أستعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت أسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت أرثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث ، فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه وأخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم. ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقا بالغانيات، لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.
وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد ألتفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد وهو ينظر إلي نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضا.
ولكني لا أعرف شيئا أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعا ولا اضطرابا؛ وإنما أنست إليه، وحققت النظر فيه، فتبينت فتاة غضة الشباب، رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهما، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصا حيا متحركا نضيرا، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعا شديدا، وكثيرا ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.
وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وإن هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا أسمع صوتا رقيقا خافتا حلوا يسعى إلي سعيا خفيا من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إلي تحية عذبة هي التي كنت أسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما أكثر ما كنت ألقاها وجه النهار: أصبح بخير يا سيدي. فأجيب: أصبحي بخير يا سيدتي. إنك تعرفني أو تكاد تعرفني، إنك تذكرني وتسأل نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، أذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الأحياء؟
نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكني لم أفعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فإني لم أخسر شيئا؛ لأني لم أفارق أحدا ممن كنت أحب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت أسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئا حين أقيسها إلى ما أسمع الآن من أحاديث الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا أنك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست أخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الأحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضا.
كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وأن أشكر لك عطفك علي، ورفقك بي، ولومك لأبي العلاء. ولكني لم أستطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة، ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقي في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن ألقيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام. ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب، فانتظرت لعل النوم أن يسعى إليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الأطياف فتراءيت لك.
وهل أنا إلا خيال أو طيف؟ لا تطل النظر إلي ولا تقل شيئا، فإن نظر الأحياء يؤذيني، وإن أصوات الأحياء تثقل علي، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إلي إذا لم يكن لك بد من حديث. وإني لأعلم أنك تريد أن تسألني كيف أتحدث إليك بصوت يشبه صوت الأحياء، وأشفق مع ذلك من سماع صوتك، فأنا لا أتحدث إليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما أنت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخيصه، ولو أن في هذه الغرفة قوما غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع. ولكن أصغ إلي فإني أحس مقدم النهار، وإني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب أثناء الحياة، والذي لم أحزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.
अज्ञात पृष्ठ