وكان القوم يمضون بطاء ثقالا كما قلت يصعدون في هذا الدرج الوعر، وتتزلق أقدامهم على هذه الحجارة الملس، لولا أن عصيهم ذات الأطراف المحددة كانت تسبقهم شيئا إلى أمام تتحسس لهم أخبار الطريق، وتبين لهم مواضع الخطو وتتثبت لهم من الأمن. وكان النهار قد تقدم حتى أدركته هذه الشيخوخة التي يسبغ الأصيل عليها رداء شاحبا حزينا يبعث في النفوس شحوبا وحزنا. وكان القوم متعبين، ولكن التعب لم يستطع أن يفل من عزائمهم، ولا أن يثبط من هممهم، ولا أن يردهم عما قصدوا إليه أول النهار من أن يبلغوا منحدر السيل، وينتهوا إلى هذه الصخور العظام التي يتفجر منها الماء في منظر رائع رهيب، ثم ينحدر عنها في هدير يملأ النفوس هلعا ورعبا وشعورا قويا بالجمال.
وكان صاحبي يسايرهم متابعا لهم في الرأي على كره منه، نشيطا للحركة والرياضة أول الأمر، ثم ضيقا بهذا الحر الثقيل وهذه الطريق الوعرة، وهذه الخطى المتعثرة. فلما قرب القوم من هذه الصخور العظام ولم يبق بينهم وبين بلوغها إلا ساعة أو بعض ساعة، وقفوا يستريحون ويستجمعون ما بقي لهم من نشاط وقوة؛ ليهجموا بهما على هذا الشوط الأخير، ثم تم لهم ذلك فهموا بالتصعيد. ولكن صاحبي أبى عليهم وأقسم لا يبلغ تلك الصخور، ولا يبرح مكانه الذي انتهى إليه، وطال بينه وبينهم جدال مؤلم، لم يخل من ألفاظ لاذعة، ولكنه صمم، وكان حسن التصميم، لا يتحول عن رأي إذا اطمأنت نفسه إليه، فتم بينه وبين القوم اتفاق مؤلم مظلم، على أن يظل في مكانه منتظرا لهم حتى يصعدوا إلى منبع السيل فيرضوا منه حاجتهم، ثم يصاحبهم بعد ذلك في العودة حين ينحدرون إليه.
ولم يكن صاحبي قد فقد نشاطه كله، ولم يكن قد استيأس من القدرة على التصعيد، ولعل نفسه كانت تنازعه إلى المضي مع القوم فيما مضوا فيه، ولعله لم يبق في مكانه إلا بعد أن جاهد نفسه جهادا غير قليل. ولكن ماذا تريد؟ لقد عرض له عارض حال بينه وبين المضي واضطره إلى البقاء، وقد ظل أصحابه بعد ذلك ينكرون عليه عناده، يحسن بعضهم به الظن فيقول إنه قد أدركه التعب وبلغ منه الجهد، وقيده الإعياء.
ويسيء بعضهم به الظن فيقول: إنما هو عارض من سوء الخلق، عرض له فصرفه عن هم أصحابه، وإنما هي خنزوانته التي تعرض له من حين إلى حين، فتفسد رأيه في الناس، وتفسد رأي الناس فيه، وتدفعه إلى شذوذ منكر، يحمل أصحابه على أن يتواصوا بأن يتركوه حتى يثوب إلى رشده أو يثوب رشده إليه. وقد أقسم لي صاحبي ما أثقله جهد ولا قيده إعياء ولا ألمت به خنزوانته. ولكنه صوت تردد في الغابة، فلم يكد يبلغ أذنه حتى انتهى إلى نفسه فمس منها موضعا دقيق الحس سريع التأثر، وإذا هو يعنى بهذا الصوت ويلتفت إليه، فيزداد تأثره به، وإذا هو يحول نفسه كلها نحوه ويقف حسه كله عليه، وإذا هو يتبين مصدر هذا الصوت ويسأل أصحابه: أيسمعون؟ وماذا يسمعون؟ فلا يجد منهم إلا إهمالا وفتورا، وإعجابا بهذين السفحين عن يمين وشمال، وبهذه الهوة ينحدر فيها السيل العنيف، وبهذه الطريق تلتوي حول الجبل كأنما تريد أن تطوقه، ثم بهذه الصخور العظام التي خرجوا مع الصبح يلتمسونها.
فأما هذا الصوت فقد أنبئوه فاترين بأنهم يسمعونه ويظنون أنه صوت حشرة من حشرات الغابة. ولما رأى فتورهم وإعراضهم كره أن يلح عليهم واستحيا أن يظهر نشاطه لما لا ينشطون له، وعنايته بما لا يعنون به. ولكنه ازداد إقبالا على الصوت وفراغا له، وتحليلا لدقائقه، واقتنع بأنه إن طال الاستماع له، فقد يفهم عنه شيئا ذا بال. وكان سعيدا حقا حين تخفف من أصحابه، وحين تركهم يصعدون نحو صخورهم العظام، وحين انقطعت عنه أصواتهم، وحين خلا إلى نفسه فلم يسمع إلا هذا الصوت الملح المتصل في شيء من التقطع كأنه نداء، وكأنه نداء حزين فيه شكاة حزينة، يملؤها ألم لا يكاد يحد. وقد كلف نفسه كثيرا من البحث لعله يتبين مصدر الصوت فلم ير شيئا. ولم يتبين شيئا، وإنما استيقن أن الصوت يأتي من يمين، واستيقن أنه ليس صوت طائر معروف، وليس صوت حشرة معروفة من حشرات الغابة، وكاد يقطع بأنه ليس صوت حيوان، وأخذت تصعد من قلبه إلى رأسه في أناة وهدوء فكرة غريبة لم يكن يقدر أن تخطر له، ولكنها مع ذلك عرضت له فاضطرب لها اضطرابا شديدا أول الأمر، وهم أن يصعد في الجبل لاحقا بأصحابه، أو أن ينحدر من الجبل عائدا أدراجه.
ولكنه لم يستطع أن يتقدم ولا أن يتأخر، وإنما وجد نفسه مقيدا مغلولا، وكان هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي هو الذي قيده وغله واضطره إلى البقاء. على أنه أخذ يطمئن بعد دقائق قليلا قليلا؛ لأن شيئا لم يسع إليه عن يمين، ولأن شيئا لم يسع إليه عن شمال، ولأن شيئا لم يخرج له من الأرض ولا من هذه الهوة العميقة التي يتحدر فيها الماء عنيفا صاخبا، ولأن شيئا لم يهبط عليه من السماء، بل ما زالت الأغصان كشأنها متناصية ملتفة متكاثفة تتخللها أشعة مضطربة ضئيلة.
كل شيء هادئ مطمئن كعهده به حين أخذ يصعد في هذه الطريق لولا هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي. فما يمنعه أن يطمئن إلى هذا الصوت، وأن يمزج بما ينبعث فيه من الحزن؛ حزنا ينبعث من قلبه، وبما يفيض فيه من الشكاة؛ شكاة تفيض من نفسه التي أثقلها الحزن والسأم والملل. ولكن الفكرة التي صعدت من قلبه قد انتهت إلى عقله فاستأثرت به، وملكت عليه أمره، وصرفته عن كل جمال وعن كل حزن وعن كل ألم أو لذة، وأخذته بالبحث عن هذه النفس التي كان هذا الصوت يعرب عنها.
ولا تضحك أيها القارئ العزيز من صاحبي، فلم تكن قصته تثير ضحكا أو تعرضه لقليل من السخرية أو كثير. وقع في قلبه أن هذا الصوت ليس صوت طائر ولا حشرة ولا حيوان، وإنما هو صوت نفس إنسانية متألمة تعرب عن ألمها، معذبة تعلن ما تحمل من عذاب، مستغيثة لا يغيثها أحد، مستنجدة لا تجد لها منجدا.
أنكر هذا الخاطر أول الأمر، وظنه أثرا من آثار الاضطراب، ثم ألح في إنكاره، ولكن هذا الخاطر قوي في قلبه لأنه نبت في قلبه، وصدر عن قلبه، ثم أخذ يصعد وقوته تزداد وتشتد، حتى انتهى إلى العقل فملكه وسيطر عليه. ولم يستطع صاحبي أن يشك في أنه يسمع نفسا إنسانية تشكو ألما وحزنا وحرمانا. وما هي إلا أن أخذ يبحث عن هذه النفس، ويلتمس في هذا الصوت في طبيعته وفي حجمه وفي نبراته ما يدله على صاحب هذه النفس. والغريب أنه لم يشك في أنها نفس شخص من ذوي معرفته، والذين كانت بينهم وبينه صلة في قديم أيامه أو حديثها، فأخذ يستعرض صور أصحابه وأصدقائه وذوي معرفته الذين تصرمت عنهم الحياة وتقطعت بهم أسباب العيش، وأدركهم الموت شبانا أو كهولا أو شيبا. وأغرب من هذا أنه لم يفكر في أن هذه النفس، إن كانت هناك نفس، يمكن أن تكون نفسا إنسانية ما، لم يعرفها ولم تعرفه من قبل.
وما أكثر الذين يموتون في كل لحظة من لحظات الدهر وفي كل مكان من الأرض! وما أكثر النفوس التي تفارق الأجسام مع كل دقة من دقات الساعة أو حركة من حركات الزمان! ولكنه لاحظ أن هذا الصوت لم يلفت أحدا من أصحابه، ولم يؤثر في أحد من هؤلاء الناس الذين يصعدون في هذه الطريق، ولم يبلغ إلا قلبه هو، ولم يؤثر إلا في نفسه هو. فيجب أن تكون هناك صلة بينه وبين مصدر هذا الصوت، ويجب أن تكون الأقدار قد دبرت الأمر تدبيرا محكما، وهيأت له هذه النزهة ليقصد إلى هذا المكان وليسمع فيه هذا الصوت، وليعلم فيه علم هذه النفس، ويجب أن يكون هناك شيء ذو بال سينتهي إليه. ومن يدري لعل لهذه النفس رسالة تريد أن تبلغها إلى أحد من الأحياء.
अज्ञात पृष्ठ