وهي لم تنفق معها إلا لحظات معدودات حقا، ولكنها مع هذا لم تفرغ لنفسها ولم تناج سعادتها ولا شقاءها ولم تناغ هذا الزهر النضر ولا هذا الشجر الملتف ولا هذا النيل الرزين، ولم تسمع غناء هذه الطيور التي لم تكن تنفك تغرد، ولم تكن مع ذلك نائمة ولا مغشيا عليها، وإنما كانت مستقرة في مكانها الذي اختارته، وكان الذين يمرون بها - لو أن أحدا مر بها في هذا المكان الذي اختارته بعيدا عن طريق المارة - يرون امرأة قد جلست كأنها التمثال لا تأتي حركة، ولا تنطق بكلمة، وإنما هي دموع غزار تنهل في صمت على وجه كان جميلا ناضرا، فأدركه هذا الذبول المؤلم الذي يدرك وجوه الناس، حين يعصف بقلوبهم خطب أليم.
ولست أدري أقضت في مجلسها هذا ساعة أم ساعات! ولكنها كانت في بيتها قبل أن يعود زوجها من عمله، ولم تكد تبلغ هذا البيت حتى أسرعت إلى غرفتها فأصلحت من أمرها، وردت إلى وجهها شيئا من الجمال المصنوع، وأخذت نفسها أخذا عنيفا حتى اضطرتها إلى شيء من الهدوء واعتدال المزاج. ثم خرجت إلى حيث يلقاها زوجها حين يعود من عمله كل يوم.
ولم يلاحظ زوجها، ولم يلاحظ أبناؤها - حين عادوا مع المساء - إلا أنها لم تكن مسرفة في النشاط ولا غالية في الابتهاج. وليس هذا بالشيء الغريب؛ فقد ألفوا منها هذه الكآبة الخفيفة تغشى وجهها من حين إلى حين. وليس من الطبيعي أن يكون الإنسان فرحا دائما مبتهجا دائما شديد النشاط في كل يوم.
ولو أنها استمعت لضميرها واستجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء، والمألوف من سيرة الناس؛ للزمت بيتها هذا المساء ولانتهزت أول فرصة تتاح لها، فخلت إلى نفسها في غرفتها واستسلمت لهذا الحزن العميق الذي كان يجاهدها جهادا عنيفا ليظهر وينفجر، والذي كانت تجاهده جهادا عنيفا ليكمن ويستخفي.
نعم لو أنها استجابت لما كانت تدعوها إليه طبيعة الأشياء أو المألوف من سيرة الناس، لفعلت هذا أو لاندفعت في شيء من هذه الحركات التي ينفق الناس فيها وقتهم، وينسى الناس بها أنفسهم من لقاء الأصدقاء وزيارتهم أو استزارتهم والتحدث إليهم بما لا يفيد، والاستماع منهم لما لا يغني، واصطناع هذا النوع من النفاق الاجتماعي الشائع الذي يخفي علينا أنفسنا ويخفي أنفسنا على الناس.
ولكنها كانت في هذا المساء جامحة النفس، ثائرة الضمير، هائجة الغريزة، شاردة الإرادة، فلم تستمع لطبيعة الأشياء، ولم تستجب للمألوف من سيرة الناس، ولم تخل إلى نفسها في غرفتها، ولم تفر من نفسها إلى صديقاتها، وإنما استجابت لشيء واحد: هو هذه العاطفة التي كانت تلح عليها أشد الإلحاح في ألا تخلف الموعد الذي ضربته لصاحبها مهما تكن النتائج ومهما تكن الظروف. فإن المواعيد لا تضرب لتنقض، وإنما تضرب ليوفي بها أصحابها. وهي تعلم حق العلم أنها إن ذهبت للقاء صاحبها حيث اتفقا أن يكون بينهما اللقاء، فلن تجده، وأنها قد تنتظره ساعة وساعة، وقد تنتظره الليل كله، وقد تنتظره الدهر كله؛ فلن تراه لأنها قرأت نعيه في تلك الصحيفة التي اشترتها صباح اليوم.
ولكن هذا لا يعفيها من الوفاء بالوعد والسعي إلى اللقاء والجد فيه. وهل كان هذا النعي الذي قرأته في الصحيفة صباح اليوم إلا كتابا من صاحبها ينبئها فيه بأن مكان اللقاء قد تغير لظروف طارئة أقوى منه ومنها، فلن يكون اللقاء في هذه الحديقة الجميلة على الضفة الغربية للنيل، ولكنه سيكون إن أرادت في ناحية من نواحي الصحراء هناك حيث يستقر الناس بعد أن ينفضوا عن أنفسهم أوزار الحياة، أو بعد أن تنفيهم الحياة منها نفيا.
أليس قد بين لها صاحبها في هذا الكتاب مكان اللقاء في الصحراء؟! لقد كان دقيقا في كتابه فبين الطريق التي سيسلكها منذ يخرج من داره مع المساء إلى أن ينتهي إلى موعده مع الليل. سيسلك هذا الطريق هادئا رزينا حتى إذا انتهى إلى مسجد من مساجد الله، عطف عليه فقدم نفسه الآثمة النادمة إلى الله تائبة مستخزية تلتمس فضلا من عفوه الذي لا حد له وحظا من رحمته التي وسعت كل شيء.
ثم يخرج من المسجد فيتخذ سيارة ويمضي مسرعا إلى موعده من الصحراء. وكان عقل هذه البائسة يحاول أن يتسلط على نفسها الجامحة وضميرها الثائر وعواطفها المضطربة، وأن يبين لها أن لا بد مما ليس منه بد، وأن هذه الأسباب الآثمة قد انقطعت بينها وبين صاحبها منذ عدا عليه الموت أمس، ولكنه لم يكن يبلغ مما يريد شيئا. وهذا الليل قد ألقى ظلماته على الصحراء، فجللها برداء قاتم كثيف، وهذه امرأة ماثلة وحدها غير بعيد من هذا القبر الذي لم تفرغ الأيدي من تسويته إلا منذ وقت قصير. هي قائمة واجمة لا تدنو من القبر ولا تنأى عنه، تود لو استطاعت أن تسعى حتى تنتهي إليه فتجثو عنده وتبثه ما يملأ قلبها ونفسها من حزن وحب، ومن ألم ويأس، ومن رغبة قوية في أن تلحق بصاحبه الذي استقر فيه.
ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى أمام كأنما أخذت رجلاها بقيد عنيف ثقيل. وقد يخطر لها في لحظة قصيرة أن تعود أدراجها، فقد أتت لموعدها، ووفت لصاحبها، كما يستطيع الناس أن يأخذوا بحظهم من الوفاء. ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة إلى وراء كأنما أخذت بقيد عنيف ثقيل. ما هذا القيد الذي وقفها في هذا المكان ومنعها أن تتقدم أو تتأخر؟ إنها مع ذلك لا تحس شيئا، إنها لتجد ساقيها حرتين، ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تسعى نحو القبر ولا تستطيع أن تعود من حيث جاءت.
अज्ञात पृष्ठ