كانت تلم بالبيت ساعات في كل يوم فتملؤه بصوتها العذب، ووجهها المشرق، ونشاطها العجيب؛ غناء وجمالا وحياة. وكان صوتها في ذلك اليوم أكثر عذوبة، وكان وجهها أعظم إشراقا وابتهاجا، وكان نشاطها أشد حدة من كل يوم آخر. حتى اضطررت إلى أن أسألها عن أمرها، وشعرت بالحاجة إلى أن أتبين مصدر هذا المرح الذي ملك نفسها وجسمها معا. فقلت لها: «ما أرى إلا أنك أسعد منك فيما مضى من الأيام.» قالت وهي تضحك: «نعم يا سيدي وما يمنعني أن أكون أسعد الناس، وقد نجح ابني في امتحانه، وظفرت بنتي بالشهادة الابتدائية، وربح زوجي ورقة لا بأس بها من أوراق النصيب.»
ولكنك لم تعرف هذه السيدة التي أحدثك عنها، ويظهر أني أنسيت أن أقدمها إليك كما يقولون، فلأصلح هذا الخطأ ولأستدرك هذا النسيان: هي امرأة فرنسية من هؤلاء الخادمات اللاتي لا يقصرن خدمتهن على بيت واحد يلزمنه ويقمن فيه. وإنما يتنقلن بخدمتهن بين طائفة من البيوت يعملن في كل واحد منها ساعات ويقتضين أجورهن آخر الأسبوع على الساعات، لا على الأيام، ولا على الشهور. وهن يعملن في هذا البيت أو ذاك ما أحببن العمل فيه وما استقامت أمورهن مع صاحبته، فإن ضقن به أو ضاق بهن تركنه وعملن في بيت غيره.
وما أكثر البيوت التي تحتاج إلى هؤلاء الخادمات تجد في استخدامهن اقتصادا في النفقة وتوفيرا لما يحتجن إليه من طعام ومسكن إن لزمن البيت أو قصرن خدمتهن عليه! وهن يجدن في هذه الخدمة الموزعة على البيوت لذات مختلفة، ويجنين منها منافع شتى هي أربح لهن وأجدى عليهن، يكسبن منها في الأسبوع ما يكسبنه في الشهر من الخدمة المقصورة على بيت واحد، ويجدن في تنويع هذه البيوت لذة التنقل، واختلاف العمل، واختلاف الحديث، واختلاف الناس الذين يكون إليهم الحديث، واختلاف البوابات التي تكون الخدمة في بيوتهن، واختلاف الشوارع والأحياء التي تقوم فيها البيوت أحيانا. ولهن بعد ذلك حرية يحرصن عليها أشد الحرص فيما يحتجن إليه من طعام وما يتخذن من سيرة في الحياة. ولهن الليل بعد ذلك ينفقنه مع أزواجهن وأبنائهن أو مع أخلائهن إن لم يكن لهن أزواج ولا أبناء.
وهن يعملن ما أحببن العمل، ويكسلن ما أحببن الكسل، وينقلن أشخاصهن من بيت إلى بيت، وينقلن مع هذه الأشخاص ما في نفوسهن من لذة وألم، ومن مرح وخمود، ومن حزن وابتهاج. وينقلن أحاديث البيوت والأسر من دار إلى دار، فينبئن هذه بأحاديث تلك، وينبئن تلك بأحاديث هذه، وينبئن البوابات بأحاديث الناس جميعا. ويكون على هذا النحو طبقة خاصة من النساء ما أرى إلا أنها تصلح موضوعا قيما لبحث اجتماعي نفيس.
وكانت مدام ليونتين هذه التي أتحدث عنها امرأة من إقليم بريتانيا الفرنسية، قد بلغت الأربعين أو جاوزتها قليلا، ولكن من يراها لا يشك في أنها لم تبلغ الثلاثين بعد. قصيرة القامة، ولكنها معتدلة القد، كثيرة الحركة سريعتها، كأنها النحلة لا تستقر، مشرقة الوجه قوية اللحظ، عذبة الحديث رشيقته، لا يكاد لغوها ينقطع، كما أن نشاطها لا يكاد يقف. وكان البيت هادئا مطمئنا يستقبل الصباح في سكون لا تكاد تحس فيه اليقظة، فإذا دخلته استحال البيت كله إلى حركة ونشاط وغناء وحديث. وكانت خفيفة الروح لا يستثقل منها هذا الاضطراب العنيف الذي تدفع البيت إليه دفعا وتغرقه فيه إغراقا. وربما أحس أهل البيت شيئا من الفراغ والضيق بالفراغ حين تتم عملها، وتلقي تحيتها وتمضي مسرعة لتستأنف عملا جديدا في بيت آخر.
وقد اتصل الحديث بينها وبيني في ذلك اليوم الذي لفتني إليها فيه نشاطها غير المألوف، فعرفت أنها لم تكن خادما ماهرة، ولا امرأة جميلة، ولا مغنية بارعة، ولا متحدثة لا يشق لها غبار، وإنما كانت هذا كله، وكانت شيئا أكثر من هذا كله. كانت فيلسوفة، وفيلسوفة بأوسع معاني الكلمة، لا بأدق هذه المعاني؛ فهي لم تكن تحسن المنطق وعلم النفس، ولا تجيد الأخلاق وما بعد الطبيعة، وماذا تصنع بهذه الثرثرة التي يفني الفلاسفة فيها أعمارهم؟
إنما كانت تفلسف في الحياة الواقعة وفيما يملأ هذه الحياة الواقعة من الأحداث. وكانت تفلسف في حياتها الخاصة فتحسن الفلسفة، والحق أن حياتها الخاصة كانت خليقة بالروية والتفكير. وأهم ما كان يعنيها من حياتها هي هذه الصلة التي كانت بينها وبين زوجها؛ فهي كانت تحبه ولكنها تحبه كارهة له، خائفة منه أشد الخوف. وقد ترى أنت وقد أرى أنا في هذا الكلام تناقضا وفسادا، ولكن مصدر هذا في أكبر الظن أننا لا نحسن الفلسفة كما كانت تحسنها مدام ليونتين.
فهي كانت ترى - ويظهر أنها لم تكن مخطئة - أن الحب يكون مع البغض، وأن الأمن يكون مع الخوف، وأن الافتتان يكون مع الاشمئزاز، وأن السعادة بعد هذا كله تكون مع الشقاء. وهي كانت تعلن هذا كله، وتقيم من نفسها ومن حياتها الدليل عليه، وهي كانت تقنع الناس وتقنعني أنا، فإذا لم أستطع إقناعك بما كانت تقنعني به، فمصدر ذلك أني لم أحسن النقل عنها ولا الإعراب عما كانت تقول؛ لأني لا أجد مثل ما تجد ولا أحس مثل ما تحس. ولن يحسن المترجم فنه فيما يظهر إلا إذا استعار شخصية من يترجم عنه، فخلطها بشخصيته خلطا، أو مزجها بشخصيته مزجا كما يقول أصحاب الكيمياء.
نشأت مدام ليونتين في قرية ساحلية من قرى المحيط، وكانت نفسها مستوحشة كالبيئة التي نشأت فيها بين هذا المحيط المصطخب دائما، وهذه الصخور المنعزلة الشاهقة، وفي هذه الحياة التي لا تخلو من خشونة وشظف، وكانت كغيرها من الفتيات الحسان وغير الحسان، تنظر إلى الشباب وتداعب الأحلام حين تنظر إلى الشباب، وكان الشباب ينظرون إليها وإلى غيرها من الفتيات أمثالها، فيداعبون الأحلام وغير الأحلام، ولعلها قد أطالت النظر إلى فتى بعينه، ولعلها فكرت فيه فأطالت التفكير، ولعلها عرضت إليه غير مرة ثم لم تستطع أن تدنو منه ولا أن تتحدث إليه، ولعلها كانت تنتظر أن يلقي إليها النظرة الأولى وأن يدعوها إلى الرقص مساء السبت أو مساء الأحد، وأن يأخذ معها في بعض الحديث.
ولكن الغريب أن هذا الفتى أو غيره من الذين كانوا يمثلون أحلام الفتاة وآمالها لم يعرض لها ولم يسع إليها، ولعله كان ينتظر الوقت الملائم والفرصة السانحة، فسبقه إلى هذا الوقت وانتهز من دونه هذه الفرصة فتى آخر ليس بينه وبين أحلام الفتاة وآمالها صلة ولا سبب، لا يروقها منظره، ولا يعجبها حديثه، ولا تميل إلى الرقص معه. ولعلها إن رأته كرهت الدنو منه وآثرت الانصراف عنه، ولعلها إن رأته أشفقت أن يدنو منها أو يبسم لها أو يلقي إليها بالا أو يرمي إليها بلحظ أو لفظ. ولكنه مع ذلك أقبل عليها واضطرها إلى أن تراه، وتسمع له، وترفع بصرها إليه، وتذعن لحديثه الذي كان يلقيه إليها، كما يلقى الأمر الحازم إلى المذعن المطيع.
अज्ञात पृष्ठ