ومهما يكن من شيء فقد وجدتني مكرهة على ما لا أحب، وما أشد ما ضحك مني أبناء عمتي حين رأوا ما ظهر على وجهي من ضيق وسخط ومن اضطراب وارتباك! وما أشد ما سخروا مني في أثناء العودة! حتى إذا انتهينا إلى الدار تفرقوا عني ومضوا يصلحون من شئونهم ويتهيئون لاستقبالهم.
وخلوت أنا إلى نفسي في غرفتي لأصلح من شأني، وأتهيأ للاستقبال، ولكني رأيتني أغرق في بكاء عميق صامت لم أحاول تفسيره ولم أحاول الخروج منه، وإنما وجدت فيه راحة ووجدت فيه لذة وأحسست فيه وفاء، وكنت خليقة أن أمضي فيه لولا أن يطرق باب الغرفة طرقا خفيفا، ثم يفتح الباب قبل أن آذن بالدخول، ثم تظهر عمتي هادئة رزينة، وقد أغلقت الباب من دونها وسعت إلي مطمئنة وهي تقول في صوت خافت كأنما تتحدث إلى نفسها: «لم أخطئ التقدير إذن!» ثم تدنو مني فتنحني إلي فتقبلني، ثم تنهضني فتضمني إليها ضما رفيقا ملؤه الحنان والحب، وقد أخذت دموعها هي أيضا تنحدر. وقد رجعت تقول لي في صوت تخنقه العبرة: «لا بأس عليك يا ابنتي! لقد كنت أقدر أني سأراك في هذه الحال، ولقد كنت أشفق أن تمضي في حزنك هذا حتى يصرفك عن ما لا بد لك منه.
هلم يا ابنتي إن الحياة لا بد من أن تحتمل، وإن فيها الحزن وإن فيها الفرح، إن فيها الوفاء للموتى وإن فيها الوفاء للأحياء. لم يكن بد يا ابنتي من أن نخرجك من هذا الحزن المتصل الذي ألح عليك أعواما إلى ما ينبغي لشبابك من الحياة الباسمة المبتهجة. إن اتصال الحزن قد يليق بالشيوخ الذين قضوا الآراب من حياتهم، وقد ينبغي أن نهون عليهم الآلام ونعينهم على احتمال الخطوب، حتى يخرجوا من هذه الحياة وقد ذاقوا من آلامها أقل ما يمكن أن يذاق، ولكنا لا نطمع لهم في السلو المطلق والعزاء الخالص، فليس لهم إلى ذلك سبيل.
فأما أنت وأترابك من الشباب، فإن لكم على الحياة حقا يجب أن يؤدى إليكم في هذا الطور من أطوار شبابكم، وللحياة عليكم حقوقا ستؤدونها حين تتقدم بكم السن. انظري إلى أبويك، لقد نعما بالشباب وذاقا لذاته كلها، واستمتعا بما فيه من فنون الترف وألوان الغبطة، وإني لأشاركهما يا ابنتي في الحزن وأشفق عليهما منه، وأود لو استطعت أن أحط عنهما بعض أثقاله، ولكنني لم أطق ولن أطيق أن يتسلط الحزن على الشباب وتثقل عليهم وطأته؛ فإن الشباب لم يخلقوا للحزن، ومن الظلم أن يتعجلوا نصيبهم من مرارة الحياة.
هلم يا ابنتي خذي بحظك من النشاط لهذه الليلة التي لم تهيأ إلا لك، والتي يجب أن تظهري فيها جميلة رائعة كأجمل ما كنت، وكأروع ما يمكن أن تكوني. يجب أن تكوني زينة المائدة، وزينة المرقص، ويجب أن يكون لك السبق والتفوق. هلم أصلحي من شأنك، وسأرسل الخادم لتعينك على ما تحتاجين إلى المعونة فيه، وسأعود لأراك قبل أن تهبطي إلى غرفة المائدة، ويجب أن أرضى عن زينتك وإلا فستستأنفين من أمرك كل شيء.»
ثم تقبلني وتنصرف، ثم تعود بعد ساعة فتنظر إلي مقبلة مدبرة مستعرضة، وترضى عن كل شيء إلا عن وجهي هذا الذي ينقصه الابتسام والإشراق. ولكنها مطمئنة إلى أن أبناء عمتي سيفيضون عليه من ذلك ما ينقصه، ثم يكون العشاء والسمر والرقص، وقد كان بين المدعوين والسامرين والراقصين فتى نظرت إلى شخصه فامتلأ به قلبي، وسمعت صوته ففتنت به نفسي، وراقصته ساعة فصرفت إليه عن كل شيء.
يا للعجب أكنت مهيأة لهذا الفتى؟ أكان هذا الفتى مهيأ لي؟ أكانت خطبتي إلى هذا الفتى موضوع الحديث الغامض بين أبوي وأخي؟ ما أدري، ولكن الفتى تردد على دار عمتي أياما، ثم تسألني عمتي ذات صباح: ما رأيك في مكسيم جيرو؟ فلا أدري كيف أجيب، وإنما أحس كأنما دمي كله قد صعد إلى وجهي، وأرى ابتسامة حلوة على ثغر عمتي وأسمعها وهي تسعى إلي لتقبلني: إنه قد صعد مع أبويه إلى القرية ليزور أبويك.
10
ما أشد حيائي منك ومن نفسي، أيها الدفتر العزيز! لست أدري أين وجدت القوة التي مددت بها إليك يدي لأستخرجك من مستقرك، الذي وجدت فيه وحيدا مهملا منسيا أكثر من ثلاثة أعوام. ولست أدري كيف فكرت فيك، وأقبلت عليك بعد اطراحي لك وإعراضي عنك. ولست أدري كيف أجد القدرة على التحدث إليك الآن بعد أن وجدت القدرة على أن أطوي عنك الأحاديث طول هذه الأوقات المتصلة، التي لا أقدر طولها ولا اتصالها إلا الآن.
ما أشد حيائي منك ومن نفسي، فإن إقبالي عليك الآن وإفضائي إليك ببعض الحديث، لا يدلان إلا على أني امرأة كسائر النساء فيها ضعفهن وقصورهن وغرورهن، وإلا على أني كائن من هذه الكائنات التي تزعم أنها مميزة بالثقافة والحضارة وما خصت به الحضارة من ترقية العقل وتصفية الطبع وتنقية الضمير، ورفع النفوس عن الصغائر والدنيات، وما هي في حقيقة الأمر إلا كائنات وضيعة قد اتخذت من الثقافة والحضارة طلاء يخدعها من عيوبها الراسخة التي لا تكاد تفرق بينها وبين غيرها من أنواع الكائنات التي لا حظ لها من ثقافة أو حضارة أو تهذيب.
अज्ञात पृष्ठ