وإذن فما زلنا في هذا السر الغامض والحديث الملتوي والتفكير الخفي في الخطبة والزواج.
ولم تطل خلوتي إلى نفسي، ولم يطل تفكيري في هذا الأمر؛ فهذا أخي قد أقبل على غير عادة فجعل يخلط الهزل بالجد، ثم أظهر الرغبة في أن يخرج معي للتروض ، وقد أنكرت عليه ذلك فلم يحفل بالإنكار، وامتنعت عليه فلم يأبه للامتناع، وظفر في آخر الأمر بما أراد فأخرجني من الغرفة ثم من الدار وجعل يهيم بي في الغابات هابطا ومصعدا ومحدثا أفانين من اللعب والمرح والجنون، ولم يردني إلى الدار إلا حين آن وقت العشاء.
لقد سلاني حزن أمي عن نفسي صباح اليوم، وسلاني مرح أخي عن نفسي مساء اليوم، وكنت أظن أني سأستقبل هذه الليلة بما كان من حديث الصباح والمساء، ولكن أبي أراد أن يشغلني بشيء غير هذا الحديث.
لقد أقبل علي قبل أن نفرغ من العشاء، وقال في صوت هادئ رزين حزين: إن أمك تشفق من إسرافك في القراءة، فماذا تقرئين إذن؟ قال أخي: إن أمنا لتشفق من أيسر الأشياء، وما أرى إلا أن مادلين غارقة في قصصها السخيف تنصرف إليه عن عمل النهار وراحة الليل، فلا تلمها ولم هؤلاء الكتاب الذين يفسدون على الناس حياتهم بما ينشرون من هذا القصص الذي لا رأس له ولا ذيل.
ولولا أني ملكت نفسي لوثبت إلى أخي فقبلته، فقد فتح لي باب المعاذير على غير علم منه ولا إرادة، وأتاح لي أن أجيب بأن ما يقوله حق. فأنا عاكفة هذه الأيام على قراءة الكاتب الإنجليزي ويلز. قال أخي: وليتك تحسنين القراءة، إنما تتبعين القصة وتعرضين عما فيها من وصف وفن. قلت: ما أنت وذاك، إنك لا تعرف كيف أقرأ، وأنا على كل حال خير منك فأنت لا تقرأ شيئا.
وكنت أريد أن يشتد الخصام بين أخي وبيني، فأصرف أبي عن هذا الحديث الذي أخذ فيه، ولكنه قال في صوته الحزين الرزين: ستختصمان حين تخلوان إلى أنفسكما، فأما الآن فإني أحب لك يا ابنتي أن تقرئي في النهار وتستريحي في الليل، وإذا لم تحرصي على الراحة لنفسك فاحرصي عليها لتطمئن أمك وتستريح. وهممت أن أجيب، ولكن أبي مضى في الحديث قائلا: «ليس من الخير أن تغرقي في القراءة على هذا النحو، وما أشفق على الشباب من شيء كما أشفق عليه من هذا العكوف المتصل على الكتب؛ فإن العقل ليس كل شيء، وقد يكون للجسم بعض الحق في أن يعيش. وأكبر الظن يا ابنتي أنك ضيقة بالحياة في هذه القرية ذات الآفاق المحدودة وفي أسرتنا هذه التي فقدت ما كانت تألف من فرح وبهجة، وسنك في حاجة إلى الفرح والابتهاج.»
وأهم أن أجيب ولكنه يمضي في الحديث قائلا: «ولعل من الخير أن تغيري من حياتك بعض الشيء وأن تتركي هذه البيئة الشاحبة الحزينة، وقتا ما، وتعيشي في بيئة أخرى فيها ترفيه على النفس، وتسلية عن الهم وتحقيق لما ينبغي من نشاط. فكري في ذلك، وسنفكر، ولكن عديني منذ الليلة بأنك ستقتصدين في القراءة وستريحين أمك من هذا الخوف الجديد.» قلت وقد اضطربت نفسي أشد الاضطراب وظهرت آيات الارتباك في وجهي وصوتي: «لك ما تشاء يا أبي، ائذن لي، ولتأذن لي أمي، في أن أمضي الليلة في القراءة لأتم قصة بدأتها أمس، وما أراني أستطيع أن أصبر عنها إلى غد.» قالت أمي: «الليلة فحسب.» قلت: نعم. قال أخي: «الأمر أيسر من هذا، إن عادت إلى السهر قطعنا عنها ضوء الكهرباء.» وتضاحكنا في حزن!
ثم افترقنا حين تقدم الليل وخلوت إليك أيها الدفتر العزيز، فلم أتم قصة بدأتها وإنما حدثتك بما كان من أمري. وهأنا هذه حائرة، لا أدري كيف تكون خلوتي إليك منذ الغد، وحائرة أيضا لا أدري كيف خطر لأبي أن ينفيني عن هذه البيئة الحزينة الشاحبة إلى بيئة أخرى لها حظ من فرح وابتهاج. وحائرة أيضا لا أدري أأستجيب إلى ما أراد عليه من الرحيل، أم أظهر الخلاف والامتناع؟ ولكن الشيء الذي لا أتردد فيه هو أني سأخلو إليك! وسأبثك حديثي في النهار أو في الليل، وفي المقام أو في الرحيل.
9
نظرت إلى شخصه فامتلأ به قلبي، وسمعت صوته ففتنت به نفسي، وراقصته ساعة فصرفت إليه عن كل شيء.
अज्ञात पृष्ठ