هكذا أسماها قبل أن يلتقي بها ويجد فيها مثال الحب الذي طالما اشتاق إليه. ولا بد أنه تنبأ بإلهامه الصادق، بما سيكون لها على حياته وشعره من أثر عميق، فجعلها محور الصياغة الأولى لروايته الوحيدة التي تعرف بشباب هيبريون. فلما عرفها والتقى بها وقام بتعليم ابنها خلع عليها هذا الاسم الحبيب؛ فخلدها في تاريخ الأدب. ومن يدري؟ فربما كان حبه الجريح الكسير من أقوى الأسباب التي عجلت بانهياره إلى هاوية الجنون المظلم الطويل!
ولكن من أين أتى بهذا الاسم الساحر القديم؟ أكان استغراقه في الروح الإغريقية والأدب والأساطير والآلهة الإغريقية - وقد ترجم بعض أشعار بندار ومسرحيتي أوديب وأنتيجونا لسوفوكليس، وظل هذا العالم المقدس مثله الأعلى وغاية لحنينه وشوقه - هو الذي أوحى إليه باسم هذه العرافة الحكيمة؟
إن كل قراء الفلسفة المطلعين على محاورات أفلاطون يعرفون هذه الشخصية الرائعة الغامضة التي ترد في محاورة المأدبة. فهي الكاهنة التي يقف منها سقراط موقف التلميذ من الأستاذ .. وهي المرأة الوحيدة التي اختارها أفلاطون ليجري على لسانها رأيه في «الإيروس» أو الحب. وهي التي يعترف سقراط أيضا بأنها علمته معنى الحب الفلسفي وهدته إلى معارج الجمال المطلق والحكمة الحقة.
تلك هي ديوتيما القديمة. أما ديوتيما الحديثة فهي التي يهبها الشاعر قلبه وحياته، ويقف منها موقف سقراط من معلمته الغامضة، بل يزيد عليه فيركع كالعابد عند قدميها. سقراط وهلدرلين كلاهما تلميذ يتعلم من أستاذته الحب والحكمة. والفرق بينهما هو الفرق بين الفيلسوف الماكر الساخر المتسامح العجوز الأفطس الأنف، والشاعر القلق الوحيد الرائع في جماله وشبابه. والفرق بين المعلمتين هو كذلك الفرق بين عرافة وكاهنة تفتي بالقول الفصل بعد اختلاف الآراء في شأن الحب - ولا بد أنها كانت عجوزا حتى تؤتى هذه الحكمة - وبين شابة هادئة رقيقة تفيض عيناها وقلبها بالطيبة والحنان والفهم للشاعر الذي ألقت به المقادير في طريقها، وشاءت أن يعيش في بيتها، ويروي عطشه الأبدي من نبعها، ويغرق كذلك آخر الأمر فيه .. ولكنه قبل كل هذا يتعلم من حكمتها العذبة الحية، وهي التي لم تعمر أكثر من ثلاثة وثلاثين ربيعا .. ويجد كيانه القلق السكينة التي ينشدها في نظرة التلميذ المتطلع إلى معلمه: «دعنا نهدأ يا ولدي، ولنتعلم أبدا» ...
غير أنه لا يريد أن يتعلم شيئا بعينه. فهو الباحث المتعب عن المطلق، وهو الظامئ دوما إلى العلم الحق؛ إلى الحياة والحركة الدائمة والميلاد المتجدد والتيار الذي لا يتوقف عن التدفق والجريان: ... لا، لست أريد أن أكون شيئا،
إنما أريد أن أتعلم ...
أرادت الأقدار القاتمة الطيبة التي طالما رفع إليها أجمل صلواته، أن يصادف هذه المربية وأن تمد له يدها، لتربت على رأسه المتعب، وتشفي جرحه العنيد .. لكن إلى حين لن يطول:
لأنني تعلمت كيف يكون التبجيل الإلهي الهادئ
عندما شفت ديوتيما «جراح» وجداني ...
ولكن لنبدأ القصة من أولها ...
अज्ञात पृष्ठ