كانت هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، عرضنا لها بإيجاز شديد وتبسيط نرجو ألا يكون مخلا. ومع أننا لم نحاول أن نجعل منه فيلسوفا على الرغم منه، فلا يمكن الإغضاء من مكانته كشاعر مفكر، لأن الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر دقيقة كالزجاج الشفاف، وهما في صميمهما متقاربان، يسكنان على قمة جبلين متجاورين وإن كانا منفصلين.
إن فكر هلدرلين فكر ملتزم بالمعنى الواسع الشامل لهذه الكلمة لا بمعناها الضيق الذي شاع في هذه الأيام. فبينما يحاول التفكير الاستنباطي أن ينطلق إلى نوع من التفكير الحر المجرد المطلق [وهو الهدف الذي لا يكاد يبلغه لأن الوعي أو الذات لا وجود لها بغير الموضوع] نجد أن تفكير هلدرلين يبتعد جهده عن مجال التجريد، ويلتزم على الدوام بالواقع المجسد المتحقق، كما يرتبط بتيار التحول والتغير والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وأشكالها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. ليس من طبيعته أن يكون فكرا مغلقا أو نهائيا أو تاما في ذاته، لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يقيم بناء من الأفكار، بقدر ما يهمه أن يتحرك حركة متصلة ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. إنه فكر يعرف حدوده - وهذه هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين! - وهو لا يريد ولا يخطر على باله أن يبني مذهبا أو يشيد بناء يرتفع طبقة فوق طبقة، لأن هذا البناء لا يناسب طبيعة شاعر قلق لا يهدأ في مكان ولا يطمئن إلى شيء.
والطبيعة نفسها تتكفل بتحديد معالم الصورة التي ينبغي أن يتعلم منها الناس. إن الإله يتدثر بثوبه، يحجب وجهه عن فضول البشر، ويستر جلاله المهيب خلف غلالة الهواء والزمان، حتى يوشك أن يستعصي على صلوات الروح وضراعتها. أما الطبيعة فتنبسط أمام أعينهم كأوراق الشجر، وعليهم أن يحبوها ويتعلموا منها:
لأن الطبيعة مفتوحة من قديم الزمان
ليتعلموا منها، كالأوراق والخطوط والزوايا.
12
وهلدرلين يقف من هذه الطبيعة المعلمة موقف الطاعة والخشوع، ويستمد منها تفكيره المحكم الدقيق الذي يختبر كل فكرة بمقدار تحققها في صورة عيانية مرسومة بارزة المعالم. ولذلك فهو لا يحاول أن يعبر عن الروح بالتصورات المجردة، وإنما ينظر إليها بعين الشاعر فيرى سحرها المنثور على جسد الواقع:
لذلك أحتفل اليوم بالعيد،
وفي المساء عندما يسود السكون
تزدهر الروح حوالي ...
अज्ञात पृष्ठ