كان صديقه «إمانويل نيتهامر» قد قدمه إلى كوكبة الفلاسفة الذين يشغلون المدينة بأخبارهم وأفكارهم. ويحدثنا هذا الصديق في مذكراته عن اجتماع ثلاثة من أقطاب الفكر والشعر في إحدى أمسيات الصيف في بيته. وكان الثلاثة هم فيشته وهلدرلين ونوفاليس الشاعر الرومانتيكي الرقيق الحزين (وكان في ذلك الحين في الثالثة والعشرين من عمره) .. ولسنا ندري ماذا تم في هذا اللقاء. ولكن إشارة واحدة من نيتهامر عن النصيحة التي وجهها إليه صديقه هلدرلين بأن يحمي نفسه من الأفكار المجردة، يمكن أن تلقي شيئا من الضوء على صلة شاعرنا بالفلسفة والفلاسفة.
اعترف هلدرلين بعد ذلك (وكان هذا في شهر يناير سنة 1799م) في سياق كلامه عن «صنعة الشعر العذبة» بأن الفلسفة قد أضنته إلى حد اليأس، ووصفها بأنها نوع من السخرة وأن الحياة معها أشبه بحياة الجندية! لقد أقبل عليها في صبر وعناد، ولكنها حرمته من الطمأنينة والسلام. وظل حائرا لا يدري السر في هذا حتى اكتشف أنها ابتعدت به عن ميله الحقيقي، وأنه كلما انصرف إليها شهق قلبه حنينا إلى «عمله الحبيب»، كما يحن الرعاة السويسريون أثناء فترة تجنيدهم إلى المراعي والسهول والقطعان .. ثم يسأل نفسه قائلا: لماذا أكون إذن كطفل مسالم طيب عندما أفرغ للإلهام العذب بدون أن يزعجني شيء، وأنصرف «إلى أشد الأعمال براءة»؟ .. لا عجب إذن أن يغضب المشتغلين بالفلسفة فيصفها بأنها طاغية، وأن يعلن ضيقه بها ويتمرد على قيودها وجبروتها!
ولعل المسئول عن هذه اللعنات التي صبها هلدرلين على رأس الفلسفة هو فيشته نفسه. لقد كان ظاهرة وحده. وكان بفكره وشخصه طاغية تجسد في هيئة إنسان. ولا نزاع في أنه يمثل قمة التفكير الاستنباطي الذي مهد له ديكارت، والذي راح يتأمل الواقع منطلقا من التجريد. [وجدير بالملاحظة أن هيجل لا ينتمي إلى هذا الخط، على الرغم من كل ما في فلسفته من تجريد، لأنه يضع الفكرة الواقعية المتحققة دائما نصب عينيه] .. وينظر هذا الفكر الاستنباطي إلى الواقع المتشابك - الذي تمتزج فيه الفكرة بالجسد بالإرادة بالإحساس بالقدر بغيرها من العناصر - نظرة أخلاقية خالصة .. [وكذلك كان الأمر أيضا عند «كانت»] .. أي أن هذه النظرة الكونية تعتبر أن الواقع بأكمله ليس إلا المادة التي تعين على تحقيق رسالة أخلاقية معينة. هذا وحده هو الذي يجعله «واقعا»، ولذلك فليس له وجود إلا حيث يصلح أن يكون جوابا على فعل [الذي يتم وفق مبادئ وأصول أخلاقية]. أي أن هناك جانبا يجرد من الواقع، وهو الجانب الذي يساعد على تأكيد «ذاتي عن طريق الفعل الذي أقوم به ». والغاية في نهاية الأمر هي تأكيد هذه الذات أو هذه الأنا.
ومن هنا بدت هذه الفلسفة أرستقراطية متعالية، جسورة ووحيدة. ومن هنا أيضا بلغ إعجاب هلدرلين بفشته وتحمسه لفلسفته أن قال في نوفمبر سنة 1794م إنه لا يعرف له نظيرا في عمقه وطاقته العقلية .. وهي عبارة يدهشنا أن يصرح بها أثناء وجوده في مدينة «يينا» بالقرب من شيلر الذي كان يؤمن بتفوقه الرائع ويخشاه في وقت واحد !
بيد أن هذه العبارة كانت بنت اللحظة. فلم يلبث بعد قليل أن أدرك آفة التسلط الكامنة في هذه الفلسفة المجردة، وإن تردد مع ذلك في توجيه النقد الصريح إليها. فها هو ذا يعترف لهيجل
9
بأنه اشتبه في مبدأ الأمر في جموده وتزمته (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالنزعة الدجماطيقية) وبدا له أن الفيلسوف يقف في مفترق الطرق. ولعل شبهة التزمت أن تكون من أقسى وأصدق ما يوجه إلى هذه الفلسفة المثالية المتطرفة التي تقوم في أساسها على أن «الأنا» هي التي تضع الواقع أو الوجود الخارجي. ومهما حاول فشته أن يدفع التهمة فإن المحاولة تستند إلى نفس الغرض الذي بنى عليه فلسفته!
مهما يكن من شيء فإن الحوار الفكري الجاد مع فشته لم يأت إلا بعد فترة طويلة في أواخر سنة 1799م عندما كتب هلدرلين مقاله الذي لم يتمه عن الدين. فقد حاول أن يرد على فلسفة فشته في المطلق، وفكرته في أن الذات هي التي تضع الوجود، أي أن الوجود الخارجي لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أما فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها «مجرد وسيط لتأدية وتوضيح واجباتي الأخلاقية» فقد رد عليها هلدرلين بفكرة أخرى مطلقة نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن علاقة الأنا والأنت. ولا بد من باب الإنصاف أن يقال إن هذه الفكرة كانت جديدة كل الجدة في تاريخ الفلسفة، وأنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث - وبخاصة هيدجر وسارتر - فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهما عن «الوجود من أجل الآخرين» [وإن اختلفت هذه الفكرة بالطبع عن مثيلتها عند هلدرلين].
لننظر في كلمات هلدرلين التي عبر بها عن فكرته الفلسفية تعبيرا يلائم حقيقة حياته ووجدانه ... فإذا أراد الإنسان - في رأيه - أن يتحدث عن الألوهية وأن يصدر حديثه من القلب لا من الذاكرة «ولا بحكم الصنعة» فلن يستطيع بالرجوع إلى نفسه وحدها أو إلى الموضوعات الخارجية المحيطة به أن يتبين أن في هذا العالم شيئا أكبر من جهاز آلي سيار، وأن فيه روحا أو إلها، وإنما يمكنه أن يتبين هذا لو اتصل بما يحيط به اتصالا حيا مترفعا عن الحاجات الضرورية. من هنا يكون لكل إنسان إلهه الخاص به، بقدر ما تكون له دائرته الخاصة التي يعمل فيها، وبقدر ما يشترك عدد من الناس في دائرة واحدة يعملون فيها ويتعذبون بصورة إنسانية، أي بصورة تسمو على كل حاجة ضرورية، بقدر ما يشاركون في الألوهية. ثم يستطرد هلدرلين في مقاله الذي أشرت إليه عن الدين فيقول:
10
अज्ञात पृष्ठ