لو أن هذا الرجل الغريب الوجه نجح في تمثيل دوره بإتقان وبراعة، فمما لا شك فيه أن الطرواديين سيبتلعون الطعم، وسيسعدون بما خلفه الإغريق تعويضا للربة أثينة عن تمثالها المسروق، وسيعمدون إلى جر الحصان الخشبي ليدخلوه المدينة، وسيجدونه ضخما لا تتسع له الأبواب. ولأنهم أمنوا شر الإغريق، سيحطمون جانبا من الأسوار، يتسع لإدخال الحصان.
وما إن يلج الحصان المدينة، ويستقر أمام معبدها، حتى يعمد غريبنا الجاسوس إلى إحدى القمم العالية، فيشعل نارا عالية، تكون رسالة موجهة إلى سفننا، حيث ينبغي لها أن تعود إلى الشاطئ بأقصى ما يتاح لها من سرعة، ثم يعود الغريب إلى الحصان، فيفتح أبوابه، ويخرج الأبطال المختبئين في جوفه. فإذا ما وطئت أقدام العائدين اليابسة، انطلقوا مسرعين إلى دخول المدينة، وتلاقوا مع أبطالهم في الداخل. وبذا تسقط طروادة في أيدينا.»
وقعت خطة أوديسيوس من نفوس الإغريق موقعا حسنا، فتسارعوا إلى تنفيذها، وفي نفوسهم توق عارم إلى النصر، والعودة إلى أوطانهم . وعهدوا إلى إيبوس ليتولى صنع الحصان، فما يعرف الجيش الإغريقي صانعا أمهر منه. وأمر أغاممنون الرجال بقطع الأخشاب من جبل إيدا، ووضعها تحت تصرف الصانع ومن يعاونونه. وراح الإغريق يعملون في جد ومثابرة تحت إمرة إيبوس حتى أنجزوا مهمتهم، فبدا الحصان برأسه المتقن، وجسمه المحكم، وذيله ذي الشعر المرسل، كأنه حصان حقيقي تكاد تدب في أوصاله الحياة.
وما إن تم صنع الحصان الخشبي، حتى وقف أوديسيوس بين الإغريق قائلا: «إن علينا أن نقوم الآن بعمل ماهر، وعلى كل منا أن يبذل جهده ليكون الأقوى والأشد. أصدقائي، إن علينا أن نختبئ في جوف الحصان، ونحن على يقين من إحدى اثنتين: أن تنجح خطتنا، وتخدع الطرواديين حيلتنا، فنفوز بطروادة. أو أن يكون الطرواديون أشد منا مكرا، فيكتشفوا حيلتنا، وحينئذ لا مناص لنا من الموت! ومتى ضمنا جوف الحصان فعلى الآخرين أن يسارعوا بالإبحار وفق الخطة التي اتفقنا عليها إلى جزيرة تنيدوس، وينتظروا هناك الإشارة، التي إذا انبعثت سارعوا إلى الحضور. ولا يبقى هنا إلا واحد منا غريب على الطرواديين وجهه؛ لكي يقص عليهم تلك القصة التي اخترعناها، حتى يضللهم عن خطتنا الماحقة.»
وعندئذ، نهض فتى يدعى سينون، يعلن أنه يرغب في أن يكون ذلك الرجل؛ لأنه تتحقق فيه كل الصفات المرغوبة، فالطرواديون لا يعرفونه؛ إذ لم يسبق لهم أن رأوه، وهو يأمل في أن ترعاه الآلهة، وتسدد خطواته، وتوقفه في عرض القصة عرضا طيبا.
وتعجب الجيش كله من هذه الجرأة التي دفعت الفتى إلى هذا الموقف، فما سبق له أن أبدى شجاعة، أو أظهر تميزا؛ ومع ذلك أتاحوا له الفرصة، وراحوا يعدونه ليقوم بدوره. وبينما هم يوثقونه بالحبال، ويلطخون وجهه بالأقذار، صعد الأبطال إلى جوف الحصان وتكاثروا، حتى لم يعد في جوف الحصان متسع لأحد، وكان آخرهم صعودا إيبوس صانعه؛ لأنه أكثرهم خبرة ودراية بإغلاق الباب الذي دلفوا منه إلى جوف الحصان، وبفتحه حينما يتاح لهم ذلك. ولما تم إغلاق باب الحصان سارع الباقون من الإغريق يحرقون المعسكر، ويبحرون بالسفن غربا.
أضاءت النيران التي أشعلها الإغريق ليل طروادة، فاستشرف أهلها من فوق قلاعهم ينظرون. فلما شاهدوا خيام الإغريق تحرق، وسفنهم تبحر، انطلقوا إلى خارج الأسوار مسرعين، يرقصون ويهللون، وكأنهم في يوم عيد! واغتنم الفتى الفرصة: فرصة زهوهم بنصرهم، ونشوتهم بفوزهم، وراح يقص عليهم في أداء بارع - تلك القصة المخادعة المضللة - قصة الحصان وقصته هو، وكلتاهما ملفقتان تلفيقا محكما.
ولم يجد عناء في أن يصدق الطرواديون ما رواه؛ فقد أعانته نشوة النصر، التي أخمدت الفكر، على ما يريد. وما لهم لا يصدقون وهم يرون - بعيونهم - العدو مخذولا، ويقفون في معسكره - الذي كان - فلا يجدون منه بقية غير هذا الحصان، الذي خلفه قربانا للربة أثينة.
لقد قرر الطرواديون أن يحملوه إلى معبدها، ولكنهم يرونه ضخم الجسم، كبير الحجم، لا يتسع له أي باب من أبواب المدينة، فلنحطم جانبا من حوائط السور؛ كي يتاح لنا أن نبلغ بالحصان مقره، ونشكر الربة أثينة التي منحتنا الحماية والرعاية.
وبذلك استكمل الطرواديون بأيديهم آخر حلقات الكارثة التي كانت تترصدهم، وراحوا يغطون في نوم عميق، تتراءى لهم الأحلام الدافئة العبقة بشذا النصر.
अज्ञात पृष्ठ