وكان أول ما تبادر إلى ذهنه، عند محاسبة النفس يوم الهول والذهول هو أن يتدبر الصلة بين رجل الفكر من جهة، ومشكلات الحياة العملية من جهة أخرى، وقد لا يرد سؤال كهذا على طبيب، أو مهندس، أو قاض، أو أحد غير هؤلاء، ممن ترتبط تخصصاتهم العلمية ارتباطا وثيقا بما يضطلعون به من أوجه النشاط العملي، فالطبيب يطب للمرضى، والمهندس يهندس المدائن والعمائر والطرق والجسور، والقاضي يفض منازعات المواطنين بما يقضي به القانون، وهكذا، أما رجل الفكر «المجرد» فيثير الحيرة عند من لا يعلمون إلا قليلا عن طبيعة ذلك الفكر وصلته بالواقع الذي يحياه الناس، في البيت، والمتجر، والمزرعة، والمصنع، والمعمل، والمحكمة ... فإذا قلنا لهؤلاء إن رجل الفكر المجرد قد ساءل نفسه صبيحة يوم الهول والهزيمة، قائلا لها: ماذا أنت يا نفس صانعة منذ اليوم، حتى يتلاءم جهدك مع ما تقتضيه الرغبة في نهوض الأمة بعد كبوتها؟ فربما همس بعضهم لبعض: ما يمكن أن يؤديه رجل كهذا ينسج أثوابه من خيوط هوائية، إذا هي صلحت لطبقات الجو العليا، فهي لا تصلح للمسة الواقع فوق هذه الأرض؟
ولقد فات هؤلاء أن الجبل مهما ارتفع ليشق بذروته أعلى السحاب، فسوف تظل الروابط موصولة بين ذروة الجبل وسفوحه، ينزل ساكن الذروة إلى السفح كلما أراد، أو يصعد ساكن السفح إذا شاء واستطاع، وماذا صنع الفلاسفة على امتداد التاريخ؟ إنهم لم يكونوا يمضغون الهواء، أو يغزلون خيوطهم من أشعة القمر، بل كان كل منهم في عصره يقف في قلب الواقع الحي ومشكلاته من رأسه إلى القدمين، حتى وإن لم تكن وقفته تلك كوقفة الحداد من الحديد يطرقه، أو النجار من الخشب ينجره، ولكنه يغوص وراء المعالجة المباشرة التي يعالج بها الحداد حديده والنجار خشبه، وكل ذي مهنة خامة مهنته، حتى يقع على أطراف الخيوط الخافية عن الأعين والتي يحركها ما يحركها، فتنشأ عن حركتها تلك الأسطح الظاهرة التي يراها الناس، ألم نكن منذ برهة نتحدث عن هزيمة أمة بأسرها؟ فما الذي صنع الهزيمة؟ ابحث عنه ما شئت في ظواهر الحياة كما تراها الأبصار أو تسمعها الآذان، ولن تجد ما يجيبك عن سؤالك، اللهم إلا القليل؛ لأن الجواب كامن هناك في الخبء المستور، ويحتاج إلى خبير يعرف كيف ينفذ خلال الظواهر الظاهرة ليصل إلى رءوسها المستترة المضمرة، فعواطف الناس وأفكارهم وأعمالهم ومعاملاتهم، هي كالنبات في الحقل، يكشف لك عن سيقانه وأوراقه وثماره، لكنه لا يكشف عن جذوره الدقيقة في تربة الأرض، والتي هي مصدر ريه وغذائه.
وانظر إلى الناس من حولك، وهم في خضم أوجه نشاطهم، فماذا ترى؟ هنالك علماء اختلفت ميادينهم، قد لا يقفون ليسألوا عن مناهجهم التي ينتهجونها في عملهم، لأنهم دربوا على إجرائها تدريبا يصرف أنظارهم عما قد يكون مبثوثا فيها من خلل يعرضهم للخطأ، إلى أن يقيض الله منهم واحدا، يأخذه القلق، فينصرف إلى إعادة النظر في ذلك النهج الذي مارسه حتى ألفه ، وها هنا قد يقع فيه على خلل كان السبب في بطء المسيرة العلمية وقصورها؟ فيعلنه على الملأ، وما هي إلا فترة تمضي حتى يستقيم المعوج في طريق البحث العلمي، وأما ذلك الزميل الذي كشف لهم عن الخبء، فيطلق عليه اسم «الفيلسوف»! وربما يدهش القارئ إذا علم بأن «الرياضة» التي عرفت طوال العصور بدقتها البالغة، قد تعرضت في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لنفر قليل من كبار علمائها، دب في نفوسهم قلق لما أدركوه من تناقض في الأسس التي تقام عليها عمارة العلم الرياضي، وما إن تبين صدق زعمهم حتى تحول طريق الفكر الرياضي في متجه جديد، هو الذي أثمر لنا ما أثمره، وكان من ألمع الأسماء في هذا السبيل، برتراند رسل من إنجلترا، و«فريجه» من ألمانيا، وقد شاء لهما الله أن يلتقيا لأول مرة في مؤتمر عقده علماء الرياضة في أوروبا في أوائل هذا القرن (وفي أواخر القرن الماضي) ليتبين أنهما قد كشفا عن شروخ في ذلك البناء العلمي، كل منهما مستقلا عن زميله، فرصدهما سجل الفلسفة فيلسوفين رائدين في هذا الميدان.
وكان الرأي على ما يقرب من الإجماع، في مجال العلوم الطبيعية، بأن قوانين هذه العلوم مقطوع بيقينها يقينا لا يختل مقدار شعرة هنا أو هناك إلى أن شاء الله للناس، أن يخرج من صفوف علماء الطبيعة أنفسهم، من يغوصون إلى أغوار أعمق، فإذا بأحدهم (هو هيزنبرج) يلمح في سلوك الكهارب داخل الذرة ما يستوقف النظر، وهو الإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر قفزات لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها، وإن قفزاته تلك تحدث في لا مكان، ولا زمان، ومعنى ذلك أنه جزء من الطبيعة «حر» حرية مطلقة، فإذا أراد العلم استخراج قوانين سلوكه، فعليه بالمتوسطات الإحصائية، وقد أخذت هذه اللفتة الجديدة تتسع في نطاقها، حتى باتت قوانين العلوم الطبيعية في حقيقتها إحصائية الطابع، احتمالية الصواب، وقد كانت لأحد الكبار المشتغلين بمناهج العلوم ملاحظة طريفة في هذا الصدد، وهي أنه بعدما كانت العلوم الاجتماعية تحاول محاكاة العلوم الطبيعية في وصولها إلى قوانين مطلقة الصواب، بدل اقتناعها بما هو إحصائي احتمالي، انعكس الوضع حين تبين أن الطابع الإحصائي الاحتمالي هو غاية المطاف، ولم يكن أمام السجل الفلسفي إلا أن يثبت في زمرة الفلاسفة أولئك الذين تعمقوا النظر في طبيعة التفكير العلمي، حتى وصلوا إلى نتائج غيرت مجرى التاريخ بالنسبة إلى ذلك الضرب من ضروب التفكير.
وهنا قد يقول لنا قائل: إنك حتى الآن لم تقدم لنا أمثلة للفكر الفلسفي، إلا من مجالات التخصص العلمي البحت، فمن بين علماء التخصص أنفسهم يظهر من يزيد القاع عمقا ليصل إلى قاع أبعد غورا، وأسميت هذا العمل فكرا فلسفيا، وجعلت القائم به فيلسوفا، فماذا عن سائر جوانب الفكر مما يقترب من اهتمامات الناس في حياتهم اليومية؟
وعن مثل هذا السؤال أجيب بأن الأمر يظل هو هو في أي مجال آخر، وأعني أن يجترئ باحث على أن يتناول بالبحث والتحليل والتعليل فكرة ما، كان الجمهور قد أخذها مأخذ التسليم، ثم بنى عليها جانبا من حياته العملية، فإذا حدث لذلك الفاحص الجريء أن اهتدى إلى نتيجة تصادف عند العقل قبولا، ويترتب عليها تغيير لوجهة النظر السائدة نحو ما هو أقدر على توضيح الغوامض، كان ذلك العمل متسما بالطابع الفلسفي، وكان صاحبه منتهجا نهج الفلاسفة في تفكيره.
فافرض - مثلا - أنك قد أدرت البصر في جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية (وكل هذه جوانب متداخلة ومتشابكة) وأحسست نحوها بشيء من القلق وعدم الرضا، وهممت بالتفكير في الأمر لعلك واقع على علة رأيتها ولم يكن قد رآها سواك، فعلى أي نهج تسير، إذا كان في عزمك أن تحاكي الفلاسفة في طرائقهم، إنه لا سبيل أمامك في هذه الحالة إلا أن تفعل شيئا شبيها بما فعله رجال العلم الذين ضربت لك بهم مثلا، حين أقدموا على ما هو بمثابة قواعد الارتكاز المسلم بها عند زملائهم، محاولين تحليلها وردها إلى ما هو أصل نشأتها إذ الأغلب أن يؤدي ذلك الكشف إلى توضيح الرؤية وتيسير الوقوع على مواضع العلة.
ففي الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان، بما في ذلك السياسة والاقتصاد وما إليهما، يحسن الحفر في أرضية البحث، حتى نصل إلى أول نشأة المجتمع، لنرى ماذا كان أساس تلك النشأة؟ هل اتفق أفراد على أن يجتمعوا في حياة مشتركة، بشرط أن يكون لهم حق اختيار الحاكم؟ أو أن رجلا قويا أجبر الأفراد إجبارا على أن يجتمعوا في قبضته، وما إلى ذلك من أمثلة تشعل فاعلية العقل بحثا لها عن جواب، وعلى هذا الجواب يتوقف كثير من موازين الصواب والخطأ في الرأي، فإذا استطاع باحث أن يمضي في هذا الطريق، كان فكره متسما بالخاصية الفلسفية، وكان له من خصائص الفيلسوف بمقدار ما استطاع، وكثيرا ما يوفق مفكر فيما يختص بمجال واحد محدود، ينظر فيه مثل هذا النظر بحثا عن مبادئه الأولى، فيكون له من حق الانتماء إلى زمرة الفلاسفة بقدر ما يستحق، فقد يقتصر اهتمامه على مجال «اللغة» - مثلا - أو على مجال «الفن» أو على مجال «الأخلاق» وهكذا، فيقاس عند التقدير بمقياس الحجم الذي اقتصر عليه، ومدى نجاحه في التحليل والكشف، لكن صفة «الفيلسوف» بمعناها المطلق، لا تطلق عادة إلا على أولئك العمالقة الذين استطاعوا جمع الوجود كله، بكل ما فيه من أقسام وميادين، تحت مبدأ واحد، فيه من الشمول والعمق ما يفسر كل مجال مما يمكن للفكر أن يجول فيه.
ويوضح لنا هذا الذي قدمناه، طبيعة العلاقة بين رجل الفكر المجرد وبين مشكلات الحياة، فالصلة بين الطرفين وثيقة، لكنها كثيرا ما تخفى على الأبصار العابرة المتعجلة، فمشكلات الحياة العملية هي - بالطبع - مواقف استعصت على الأفراد في مجرى الأحداث اليومية، كمشكلة الإسكان، وارتفاع الأسعار، وهبوط المستوى التعليمي، وتلوث البيئة بفضلات الصناعة وغيرها من عناصر الحياة الجديدة، وعمل المرأة بين البيت وخارج البيت، إلخ، ويجيء تناول هذه المشكلات على عدة مستويات متدرجة، تبدأ في أدنى درجاتها من نقطة تقرب من أرض الواقع، كما يحدث في التقارير الصحفية التي تؤخذ من مواقع المشكلة على الطبيعة، ثم تتدرج في عمليات التقليل وإيجاد الحلول، درجات قد يأخذ بعضها صورة البحث العلمي، حتى إذا ما ارتفعت عن المستويات التي تقصر البحث على المشكلة في ذاتها، إلى مستوى أعلى يضع تلك المشكلة مع غيرها مما يتصل بها، لتظهر علاقات وحقائق لم تكن لتظهر قبل أن توضع المشكلة في خريطة أوسع منها نطاقا، كنا بذلك قد دخلنا ما يشبه طبقات الجو العليا، وعندئذ تنكشف للباحث المنابع والأصول، فتزداد المعرفة وضوحا ودقة، ويزداد المختصون قدرة على حل المشكلات الحادثة في حياة الناس العملية فوق سطح الأرض، ولعل ثمة وجها للتشابه بين هذه الحالة وحالة الكشف عن منابع النيل، فقد لبث العالم دهرا طويلا - من مصريين وغير مصريين - يجهل من أين يأتينا نهر النيل بمائه؟ وما أكثر ما ورد في كتب الأقدمين قولهم بأن النيل يجيء بمائه من ينبوع في الجنة، إلى أن جاء عصرنا الحديث وعلماؤه الرحالة، فكشفوا لنا بكل الدقة عن الحقيقة الأرضية لهذا النهر العظيم، كشفا وضع في أيدينا زمام النهر، نقيم عليه الضوابط والخزانات، ولو بقينا على أوهام السابقين، لبقي سر النهر لغزا محيرا، ربما دفع الناس إلى عبادته اتقاء لغضبه واستجداء لفضله ونعيمه.
وهكذا الحال في عالم «الأفكار»، فكلها أفكار يحياها الناس حياة تطبيقية عملية، إما استمتاعا بخيراتها، وإما حرمانا منها وسعيا إلى اكتسابها، وأين في الأسرة البشرية كلها من لا يحيا «الحرية» على أحد هذين الوجهين؛ استمتاعا أو جهادا نحو الحصول عليها؟ أين هو الإنسان الواحد الذي لا يحيا فكرة «المساواة» بين الناس، إما ممارسة لها على ضيق أو على سعة، وإما كفاحا في سبيلها، حتى إذا ما يئس من النجاح، أحالها إلى الحياة الآخرة، حيث لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه في الحياة الدنيا.
अज्ञात पृष्ठ