وتأمل كلمة «ظواهر» لأنها تشير إلى أن شأن العلم هو ما يظهر من الأشياء أقول: لئن حرص الإنسان على التزام «الظاهر» وهو يبحث ما يبحثه في دائرة العلم، فإن ذلك لا يعني أن بقية عظيمة الشأن في حياته تبقى ومن حقها ومن حقه أن تنال من عنايته ما تنال موضوعات البحث العلمي، وتلك البقية التي أشرنا إليها، هي «الحالات» التي يحسها صاحبها وهي تعتمل في جوفه، وهي «حالات» لا تنفك ملحة على صاحبها أن «يعبر» عنها ليراها أو يسمعها الآخرون، وانظر إلى كلمة «يعبر» هذه وصلتها اللغوية ب «العبور» لترى كيف تلح «الحالات» الداخلية من كل إنسان تريد لنفسها ويريد لها صاحبها «عبورا» من كونها «حالة» لا يحسها إلا حاملها، لتكون ذات وجود محسوس للآخرين، وأغلب وسيلة من وسائل «العبور» من داخل إلى خارج، أو من باطن إلى ظاهر، هي وسيلة اللغة، ومن اللغة إذا ما ملكها موهوب تشكل أشكال تقوي عملية العبور أو التعبير، وعندئذ يكون المنطوق أو المكتوب، شعرا وغير شعر من صور الإبداع الأدبي، بيد أن اللغة ليست كل وسائل التعبير الذي يعبر به باطن الإنسان ليصبح ظاهرا معروضا أمام الآخرين، فهنالك وسائل أخرى يتحقق بها العبور كأنغام الموسيقى، وألوان التصوير وخطوطه، وأحجار النحت والعمارة، وهنالك الرقص والتمثيل، بل والانفعالات بالضحك أو بالبكاء، وغير ذلك.
والسؤال الذي يمس موضوع هذا الحديث، هو: ماذا يعني «الصدق» في هذه الأمور وأشباهها؟ أيظل محتفظا بجوهر معناه الذي رأيناه في مجال «العلوم» وأعني أن يكون هنالك طرفان فنراهما متطابقين؟ والجواب هو بالإيجاب، وهاك شيئا من التفصيل:
نحن الآن في الدائرة الثانية من دائرتين إدراكيتين تتألف منهما معا حقيقة الإنسان من حيث هو كائن ذو وجدان، كما رأيناه في دائرة العلوم كائنا يسترشد بمنطق العقل في إدراك دنياه، ونستطيع أن نحدد في دائرته الوجدانية جانبين: الدين والفن، بما في هذا الدين فنون الأدب، وإذا كنا نميز «العلم» من «الثقافة» لنجعل منهما معا ركيزتين تقوم عليهما حياة الإنسان، فماذا تكون «الثقافة» غير ما نراه بين أيدينا من ثلاثة فروع تجتمع معا في بنية الحياة الثقافية، لا غناء للإنسان عن أي منها، لكنها تتفاوت أهمية وقدرا وتلك هي: الدين، والفن ومنه الأدب، ومجموعة التقاليد المتعارف عليها، ينقلها جيل عن جيل، وسوف نغض النظر عن «التقاليد» لأنه لا مجال فيها لأن توصف بصدق أو كذب؛ لأنها كما يدل عليها اسمها صور من السلوك يقلد فيها الولد والده، وبهذه المحاكاة المادية الآلية يمتد حبلها عبر الأجيال، وسنقصر القول في معنى «الصدق» على الإيمان والفن.
فمتى وكيف يكون الإنسان صادق الإيمان؟ فأولا يحسن بنا بادئ ذي بدء أن نستحضر في أذهاننا بوضوح أن «الحالة» الداخلية التي نطلق عليها اسم «إيمان» هي حالة القبول المباشر قبولا نصدق به نبأ سمعناه أو رؤية دعينا إلى اصطناعها لينظر من زاويتها إلى ما ننظر إليه من شئون حياتنا، فالإيمان في جميع حالاته هو قبول بغير تحليل ومراجعة، هو قبول ينبض به القلب بغض النظر عما قد يقيمه العقل بعد ذلك أو لا يقيمه من برهان عقلي على صحته، هو إدراك بالبصيرة سواء أدرك البصر ما يؤيده أم لم يدرك، وإذا استخدمنا كلمة «حدس» التي هي مصطلح أظن أن الإمام الغزالي كان أول من استخدمه ليدل على ذلك النوع من إدراك حقيقة ما إدراكا مباشرا، لا يستند فيه إلى تعليل أو تحليل أو إقامة الدليل؛ ولذلك فلا غرابة أن قورن بلمعة النور يقذف بها الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فيؤمن بما آمن به، وعن مثل هذا القبول القلبي المباشر تقول الآية الكريمة
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا
فإذا استخدمنا كلمة «الإيمان» في غير مجال الدين فقد يختلف بنا الموقف؛ لأن من يعلن إيمانه بمذهب سياسي معين، أو بوجهة نظر معينة في أوضاع المجتمع أو غير ذلك، فربما جاء إيمانه ذاك تلبية لدعوة من زعيم فقبل الدعوة قبولا سلبيا بغير مراجعة نقدية، وربما سبق تلك الحالة الإيمانية عنده فحص وتمحيص، إذن فلنحصر قولنا هنا في حالة الإيمان الديني على سبيل التحديد والتخصيص.
ونسأل ما الذي نعنيه ب «الصدق» حين نصف به حالة «الإيمان»؟ إننا نعني أن ينعكس ذلك الإيمان الذي هو حالة داخلية في صدر صاحبها، لا سبيل لأحد أن يراها رؤية العين ولا أن يسمعها سمع الأذن ولا أن يلمسها بالأصابع، فلا مرجع فيها إلا ما ينبئنا به صاحبها لكن مثل هذا النبأ - بالطبع - لا يكفي دليلا على صدقه، وإنما الذي يكفي هو أن نرى ذلك الإيمان الداخلي المزعوم، منعكسا في المواقف السلوكية لصاحبه، كلما استحدثت له الحياة العملية موقفا يتطلب منه الرد عليه برجع حركي يفعل به شيئا، أو يكف به عن فعل شيء، فالطرفان اللذان نتوقع لهما أن يتطابقا في حالة الإيمان الصادق، هما المضمون الإيماني المزعوم وجوده بشهادة صاحبه، من جهة، وضروب العمل التي تظهر للناس في سلوكه المرئي إزاء مثيرات السلوك من وقائع الدنيا، على كثرتها واختلافها من جهة أخرى، وأن في اقتران «الإيمان» بالعمل الصالح اقترانا مطردا في الكتاب الكريم لدليلا على معنى الإيمان أقطع دليل.
أمعن النظر مليا فيما يطلب من المؤمن الصادق في إيمانه، من مطابقة سلوكه وردود أفعاله إزاء ما يحيط به من أحداث ومؤثرات تجد صدق الإيمان ليس هنة هينة يسيرة التحقيق، ولكي تقترب من التصور الصحيح فانظر مرة أخرى نظرة فاحصة متأنية في التفصيلات التي يشتمل عليها المضمون الإيماني عند مسلم آمن بالله وشهد بأنه: لا إله إلا الله، وحسبنا في هذا الصدد أن نذكر جانبا واحدا مما يقتضيه ذلك الإيمان، وهو ما يطلب من المؤمن بأن يتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، تخلقا يقف عند حدود القدرة البشرية، فما معنى ذلك؟ معناه أن يروض الإنسان نفسه حتى تصبح عليمة بالحق، ما مكنتها حدودها البشرية وأن تكون مريدة فعالة لما أرادت، ومسئولة بعد ذلك عما فعلت، ما استطاعت بطبيعتها البشرية إلى ذلك سبيلا، ومعناه أن تكون كريمة حليمة، حكيمة، خبيرة بديعة «أي مبدعة» معناه أن تكون معايير السلوك هي تلك الصفات التي وردت في الكتاب الكريم، ولعل ذلك بل لا بد أن يكون ذلك هو ما قصدت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، حين سئلت عن أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت ما معناه: إن خلقه هو القرآن الكريم. تأمل ما يتلوه المؤمن بلسانه ألف ألف مرة بعد ألف ألف، حين يتلو وهو يقرأ «الفاتحة»
إياك نعبد وإياك نستعين ، ثم حاول أن تترجم في ضميرك هذا القول الكريم إلى سلوك عملي فماذا أنت صانع؟ إنه هو ألا تعبد إلا إياه، وألا تستعين إلا إياه، فلا عبادة لمال ولا عبادة لسلطان لا عبادة لوسيط أو شفيع ولا استعانة بذي نفوذ أو بذي جاه، فأنت وما تعمل مما يرضي ربك وما يرضيه مذكور في كتابه الكريم، وحاول أن تتخيل كم يكون قدرك أمام نفسك حين لا تتجه بعبادتك إلا لله وحين لا تستعين إلا بالله، وأظنه الإمام علي بن أبي طالب هو الذي قال، ولست على يقين في ذلك: «احتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره.» وهذا الجزء الثالث هو الذي يهمنا أكثر من سواه فيما نحن بصدد قوله الآن، «استغن عمن شئت تكن نظيره» نعم إن كل من حملتهم الأرض على ظهرها من أصحاب الهيل والهيلمان لا سلطان لهم عليك إذا كنت عنهم في غنى، ويتحقق لك ذلك إذا صدقت في إيمانك وأنت تتلو:
إياك نعبد وإياك نستعين
अज्ञात पृष्ठ