كان صاحبنا عند انتقاله في عقود السنين إلى سنوات الأربعينيات، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب بصفة عامة، وفي حياته هو الشخصية بصفة خاصة، قد ترك الثلاثينيات مثقل الصدر بهموم حقوق الإنسان الضائعة، حتى على أيدي روادنا الأعلام ، فماذا وجد في عقد الأربعينيات عن تلك الحقوق؟ وكيف جاء رد فعله لما وجد؟
سنوات التحول «2»
ألقت الحرب العالمية سلاحها سنة 1945م، وكان صاحبنا عندئذ في بعثته الدراسية التي جاءته متأخرة بعد تخرجه بأربعة عشر عاما، لم يكن قد أضاع منها يوما واحدا فارغ البال، إذ جرت حياته في ثلاثة خطوط متوازية، كان كل خط منها كافيا وحده أن يملأ الحياة عملا: فهو في أحدها معظم نهاره كاسبا لرزقه، حتى إذا ما فرغ من ذلك غمس نفسه في القراءة والكتابة كاتبا ليشارك في الحياة الثقافية، ثم هو آخر الشوط يختم نشاطه بدراسة يستعد بها لقدوم اللحظة المجهولة، التي إذا حانت، ظفر بحقه المرجأ في السفر إلى الخارج ليكمل دراسته العليا، وكان من طبيعة تلك الحياة المزدحمة أن تترك في صدر صاحبها مزيجا من الأمل واليأس، والحق أنه كان اليأس أقرب حلولا في نفسه من بوارق الأمل، فما أكثر ما أوحى إلى نفسه بأنه إنما ينفخ في رماد، هيهات أن تتوقد له من تحته جذوة فتبعث فيه الدفء، وربما كان بعض ذلك راجعا إلى كثرة ما امتلأ به طريقه من عقبات تدعو إلى الإحباط، فقد كان من أندر النادر في مجتمعنا، الذي لا نستثني معه أعلامنا الرواد، أن يجيء الحق إلى صاحبه بقوة الحق وحدها، فإما أن تعامل الناس والعصا في يدك، واللفظ الخشن بين شفتيك، وإما أن يصيبك الإهمال إلا أن يتولاك ربك برحمته وعدله، ولم يكن صاحبنا قد عرف الطريق إلى العصا، ولا اعتاد لسانه اللفظ الغليظ لينطق به في حينه فيستريح، حتى وإن أفلتت منه وسائل النجاح.
ولقد حدثناك عنه، فيما أسلفناه من أحاديث، كيف انتقلت به السنون من ثلاثينيات القرن إلى أربعينياته مثقل القلب بهموم اليأس من أن تجد حقوق الإنسان سبيلها ميسرة إلى من يستحقها، وكان مصدر يأسه أن روادنا الكبار قد غلب عليهم أن يكتبوا بالأقلام ما لا يفعلون، فهم يدعون إلى الحرية والعدل والمساواة وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى، حتى إذا ما دخلوا في معاملات من سواهم، لم يكن لكل ما يدعون إليه إلا أضعف الأثر، فحرية الفكر والقول لهم وليس لمن دونهم، ومن ثم فلا عدالة، ولا مساواة، ولا كرامة، إلا وهي حبر على ورق، وسافر صاحبنا في بعثته الدراسية وملء صدره غيوم من هذه الهموم، ليجد مجتمعا آخر يتعامل أفراده بعضهم مع بعض على نحو ما كان يتمنى أن يراه في قومه، وهنالك أشرق عليه المعنى القوي الناصع، للعبارة التي قالها الإمام الشيخ محمد عبده، عندما زار إنجلترا سنة 1905م، حين قال إنه وجد في تلك البلاد إسلاما بغير مسلمين، بعد أن ترك وراءه في بلده مسلمين بغير إسلام.
ولم يكن قد مضى على نهاية الحرب العالمية الثانية إلا ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، حتى أعلنت أمام العالم وثيقة حقوق الإنسان، في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948، فتلقاها صاحبنا بفرحة وكأنه يتلقى بارقة تزيح عن صدور الناس في أنحاء الأرض كوابيس الظلام، وماذا قالته تلك الوثيقة عن «حقوق الإنسان»؟ إنها رددت ما يمليه الإدراك الفطري السليم، فليس الذي ينقصنا هو «معرفة» الحقوق، بل هو التربية التي تدربنا على النط السلوكي الذي يصون تلك الحقوق، فأول ما نادت به الوثيقة، هو حق «الحرية»، ومن ذا ينكر على الناس حقهم في «الحرية» ما دام أمرها مقصورا على اسمها؟ لا أحد، لكن تأمل حياتهم العملية لترى كيف تفهم الحرية وكم يتحقق من معانيها، فهي في بلادنا - على أحسن الفروض - تفهم من جانبها السلبي وحده، إذ تفهم بمعنى التحرر من القيود، ومن القيود السياسية بصفة خاصة، ومثل هذا التحرر واجب محتوم، لكنه إذا اكتفي به لما كسب الإنسان من حريته شيئا إلا الشكل الخارجي، فبعد أن كان القيد يغل قدميه أزيل القيد، إلا أن القدمين ما زالتا عاجزتين عن السير، لماذا؟ لأن السير يريد هدفا يوصل إليه، ولأن الوصول إليه يتطلب «معرفة» بالوسائل، فإذا كان لا هدف هناك، أو كان هنالك الهدف ولا معرفة يستعان بها على خلق الوسائل المحققة لذلك الهدف، إذن فيا خيبة الرجاء، وهذا هو ما قد حدث بالفعل في معظم الأقطار التي فكت عنها قيود المستعمر، قطرا بعد قطر، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية سلاحها، إذ ماذا يجدي إذا أزيلت الأغلال عن الأقدام، وبقيت أغلال تقيد العقول؟ ماذا يجدي أن تظفر أمة بحريتها السياسية، حتى إذا ما همت بعد ذلك تبني قوائم حياتها الجديدة وجدت نفسها في حاجة إلى ذلك المستعمر نفسه تطلب منه أن يعينها بعلمه وخبرته، وأجهزته؟ أليس سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، ولم يغير من الأمر شيئا أن تنتقل الأغلال من الأقدام إلى الرءوس؟
وحرصت وثيقة حقوق الإنسان منذ فاتحتها، على أن تطالب لكل إنسان بكل الحقوق، ولنتأمل هذا المعنى جيدا؛ لأننا لم نألف العيش في مجتمع لا يتفاوت فيه الأفراد بامتيازات تعطى لزيد ويحرم منها عمرو، ولست أعني بالامتياز ذلك التفوق الذي يظفر به صاحبه بمواهبه وبجهده، فهذا امتياز لا مأخذ عليه، بل وأراده لنا رب العالمين، وإنما قصدت إلى امتيازات تؤخذ سرقة ونهبا، وتعطى قسرا وتجبرا واعتسافا.
ويطالب إعلان «حقوق الإنسان» بحق «الحياة» وقد نسرع إلى الظن بأنه حق يضمن للإنسان أن يتنفس، فلا يغتاله أحد، أما صاحبنا حين طالع إعلان الحقوق فور صدوره، وأخذته الفرحة بما طالع، فقد ذهب بفكره بعيدا في فهم «الحياة» التي هي حق لكل إنسان، وساعده على هذا التوسع في فهم المعنى، ما كان يعرفه عن معنى «الحياة» في الفكر الإسلامي فصفة «الحي» اسم من أسماء الله الحسنى، ويذهب نفر من فقهاء المسلمين - ومنهم أبو حامد الغزالي - إلى أن الصفات المتضمنة في أسماء الله الحسنى، هي في الوقت نفسه صفات تلزم الإنسان المسلم بأن يتخلق بها، مع الفارق الواسع بين الحالتين، فبينما تفهم الصفة وهي منسوبة لله جل وعلا بمعناها المطلق الذي لا تحده حدود، تكون وهي منسوبة إلى الإنسان محدودة ومقيدة، فصفة «الحي» في كلتا الحالتين تتضمن - كما شعر الغزالي - صفتي «الإرادة» و«العلم»، إلا أن الله الحي - سبحانه وتعالى - مريد بمشيئة مطلقة ومحيطة بالكائنات جميعا، وهو كذلك «عليم» بعلم يسع السموات والأرض، وأما الإنسان فهو وإن تكن «حياته» الإنسانية متميزة دون الحياة في أي كائن آخر، بكونها مشتملة على القدرة المريدة والقدرة الإدراكية الواعية لما تدركه، إلا أن ذلك مقيد بحدود، وما دام الأمر كذلك، فحق «الحياة» بالنسبة إلى الإنسان، لا يقتصر على حصانة تمنع اغتياله أو قتله بأية صورة من الصور، بل يضيف إلى ذلك حق الإنسان في أن يكون ذا إرادة حرة، يسعى إلى العلم بمخلوقات الله ما وسعته القدرة على تحصيل ذلك العلم، فليس الناس سواء في قدراتهم الإدراكية وفي مواهبهم المختلفة، ومن حق الإنسان الحي في امتلاك هاتين الخاصتين - وهما أن يريد بإرادة حرة، وأن يحصل من المعرفة ما استطاع تحصيله - تنبثق حقوق أخرى انبثاقا يجعل تلك الحقوق جزءا من الفطرة الإنسانية، وليست هي موهوبة له من أحد سوى خالقه الذي فطره على ما فطره من خصائص: فمن كون «الحياة» الإنسانية مريدة بطبيعتها، ينتج بالضرورة أن تكون للإنسان «الحرية» التي يختار بها ما يريد، فإذا حرم من حق الاختيار الحر بين البدائل المتاحة، فكأنه حرم من إرادته التي هي جزء من فطرته، ومفهوم بالطبع أنه لما كان الفرد عضوا في مجتمع بحكم الضرورة، وجب أن تتوازن حريات الأفراد بحيث لا تطغى إرادة منها على أخرى، ومن هنا جاءت الشرائع والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها في كل موقف من مواقف الحياة والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها المشتركة، وكذلك ينبثق من كون الحياة الإنسانية - في الفكر الإسلامي - مميزة بتحصيل العلم، حق «التفكير» و«التعبير» عما قد انتهى إليه ذلك التفكير، فليس لأحد على أحد سلطان يقيد به فكره، أو يصادر به حقه في أن ينشر في الناس ذلك الفكر، ولعل أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، أن الفكر الإسلامي حين جعل «الحياة» الإنسانية مؤلفة من «إرادة» ومن «علم»، قد افترض افتراضا مسبقا لم يجعله موضع مجادلة بين قبول ورفض، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد خلق لذاته ، ولم يخلق من أجل ذات بشرية أخرى، وبذلك يكون من معاني حق «الحياة» أن يكون الإنسان غاية مقصودة، وهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عما يعمل، بغض النظر عن سائر الأفراد، وكونه غاية في ذاته يستوجب رفض الرق الذي يوكل إلى السيد أن يسلب العبد إرادته فيسلبه - بالتالي - حياته الإنسانية فلا يبقى له من الحياة إلا جوانبها الآلية والحيوانية.
ويستخرج إعلان «حقوق الإنسان» بعض النتائج التي تتفرع عن حق «الحياة» لتكون بدورها حقوقا مسلما بها، منها ألا يكره إنسان على غير إرادته إكراها يلجأ إلى تعذيبه بأي نوع من أنواع التعذيب، سواء أكان إيلاما جسديا، أم كان إحراجا يحط من كرامته أمام الآخرين، كأن تهتك خصوصية حياته، الشخصية الخاصة، فمن حق كل إنسان أن تكون لحياته الخاصة حرمة تصان.
وهكذا يعلن ميثاق الحقوق عما يجب أن يتمتع به أفراد الناس جميعا، فلكل إنسان حق التنقل حيثما أراد، لا تحدد إقامته في مكان معين رغم إرادته، ولكل إنسان حق التملك لا ينازعه فيما كسبه بعمله منازع، وإذا كان لكل إنسان الحق في التفكير والتعبير، والحق في اختيار عقيدته، فإنه مما يلحق بذلك أن يكون له أيضا الحق في أن يغير من فكره ومن عقيدته إذا أراد لنفسه ذلك، ولكل إنسان الحق في العمل وفي حرية اختياره لنوع العمل الذي يراه ملائما لقدراته.
كما أن لكل إنسان الحق في وقت الفراغ، وذلك كله يستتبع أن تكون السلطة الحاكمة مسئولة عن تهيئة الظروف التي تكفل للعاملين درجة لائقة من مستويات العيش، وأن تدبر نظاما للتأمينات التي تكفل دوام ذلك المستوى في حالات البطالة والمرض والشيخوخة، وينص إعلان «الحقوق» بصفة خاصة على حقوق «الأمومة» و«الطفولة»، فالأم أم تستحق الرعاية والحماية، مهما تكن العلاقة التي أدت بها إلى تلك الأمومة، والطفل طفل تجب له العناية بغض النظر عن أي عامل اجتماعي أو طبيعي يحيط به. وللتعليم والثقافة نصيبهما في إعلان «الحقوق»، فلكل فرد حق في أن يتعلم وفي أن يجد زادا ثقافيا يلائمه، كما أن للقائمين بعمليات التعليم والتثقيف حقوقا ينص عليها الإعلان، تشمل فيما تشمله حقوق المؤلفين والمبدعين، كما تشمل حقوق الآباء في أن يكون لهم رأي في تعليم أبنائهم، وإلى جانب حقوق الأفراد التي ذكرنا بعضها، لم يفت الإعلان أن يذكر ما «للشعب» الذي هو مجموع مواطنيه، من حقوق، وعلى رأسها أن يكون الشعب مصدر السلطات جميعا، بما يكون لأبنائه من حقوق الانتخابات لمن ينوبون عنه في مواقع صنع القرار، لم يكن صاحبنا ولا كان غيره بحاجة حقا إلى إعلان لحقوق الإنسان لكي يعرفها بعد جهل، لكن جاء الإعلان ليوقظ الغافلين، فحقوق الإنسان أمور تكاد تمليها فطرة الإنسان، إلا أن تلك الفطرة فيها كذلك ما يملي التسلط والاستبداد والحقد والكراهية، وها هو ذا صاحبنا قد سافر في بعثته الدراسية محيطا بما وجده من خيبة الرجاء، حتى عند الرواد الكبار إذا ما اقتربت منهم لتراهم عن كثب، فلما أن استقر به المقام في الغربة، لم يستطع أن يقاوم إغراء القلم ليكتب فيما أثقل قلبه من أسى، لكنه حمل قلم الأديب، لأنه آثر أن يدخر قلم العالم ليجول به في مجال البحث العلمي، فماذا كتب الأديب بقلمه في سويعات فراغه هناك؟ إنه ابتكر لنفسه طرازا فريدا من المقالة «الأدبية» يصب فيها مرارة نفسه، وليست المقالة «الأدبية» موصوفة بهذه الصفة لمجرد أنها كلام مكتوب في لغة سليمة، أو بأسلوب متميز، وإنما هي «أدبية» لأنها صفة ضرورية لا يكون الفن فنا ولا الأدب أدبا إلا إذا توافرت فيه تلك الصفة، وقد يضاف إليها بعد ذلك صفات أخرى، أو لا يضاف، وتبقى هي شرطا ضروريا، وأعني بها الصورة، أو «الشكل» أو «التكوين» أو طريقة البناء، أو الإطار ... فهذه كلها أسماء تشير إلى طبيعة الصفة المميزة التي لا يكون الفن الأدبي، أو الفن من أي ضرب آخر، فنا إلا بها، فالفن إذا ما أراد أن يوصل إلى المتلقي حالة نفسية معينة، أو فكرة، لجأ إلى وسيلة تحمل تلك الحالة أو الفكرة المبثوثة إلى متلقيها، تصل إليه بطريق غير مباشر، لماذا؟ لأن الحالة النفسية أو الفكرة ينقصها التجسيد الذي يجعلها وكأنها شيء مما تراه الأبصار أو تسمعه الآذان أو تلمسه الأيدي، وعلى الفنان - في الأدب وفي غيره - أن يبحث عن وسيلة تجسيد ملائمة لموضوعه.
अज्ञात पृष्ठ