हिरोडोट: एक बहुत छोटा परिचय
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
शैलियों
في ضوء المكانة البارزة التي تمتعت بها النساء في الإثنوجرافيات، ليس من المفاجئ أنهن تلعبن أيضا أدوارا كبيرة في مواضع أخرى في السرد. ولا ننس أن النساء كن في قلب الحكايات الملحمية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل عمل هيرودوت؛ ففي الإلياذة، نجد أن هيلين هي السبب المباشر في الحرب، وأن الفتاتين الأسيرتين كريسيس وبريسيس هما ألعوبتا الحرب، أما أندروماخي وهيكوبه فهما زوجة هكتور القوية وأمه. وتضم الأوديسة مجموعة متنوعة من السيدات البارزات اللاتي يساعدن البطل بالتناوب، ويعرقلن عودته إلى زوجته المخلصة بينيلوبي؛ وأعني الحورية كاليبسو التي تبقيه لسبع سنوات على جزيرتها، والساحرة سيرسي التي تحول رجاله إلى خنازير، والسيرانات المغريات، لكن هناك أيضا الأميرة المعينة نوسيكيا، وأخيرا الإلهة أثينا التي تنقذ أوديسيوس عندما تحس بالخطر. وتنتهي الملحمة بموت الخادمات التعيسات اللائي ضاجعهن خطاب بينيلوبي سيئي السمعة قسرا، حيث يشنقهن أوديسيوس لدى عودته عقابا لهن على ذلك.
تحظى النساء بحضور واسع في «تاريخ هيرودوت» كذلك، حيث عددت الأكاديمية المتخصصة في أعمال هيرودوت، كارولين ديوالد، 375 موضعا ذكرت فيه النساء أو الأنوثة في عمل هيرودوت. وأدوار السيدات في «تاريخ هيرودوت» متنوعة على نحو يفوق العادة؛ إذ يتراوحن بين طاعنات بالسلاح وضحايا اختطاف، وملكات وإماء، ومهندسات هيدروليكيات وفتيات مبكرات النضج. والنساء يجمعن الرجال في تحالفات قائمة على الزواج، ويفرقن بينهم في الصراعات العائلية. وهن يقتلن ويقتلن، وينقذن بعض الأقارب ويقضين على بعضهم الآخر، ولا يمكن أن نتوقع ما هو أدنى من هذا؛ فلا ننس أن هيرودوت أعلن في بداية عمله عن هدفه؛ وهو تخليد ذكرى ما فعله الناس، ذكرى أعظم الأشياء التي حدثت، وعلى وجه أكثر تحديدا، ذكرى كل شيء حدث فيما يخص الحرب بين الإغريق والفرس. ولم يكن ثمة سبيل أمامه كي يفعل هذا دون نطاق رؤية يشمل كلا الجنسين، ويتحرى كل جنس منهما في تشكيلة واسعة من الوظائف.
تظهر النساء لأول مرة في مستهل «تاريخ هيرودوت» عندما يبدأ هيرودوت في سرد سلسلة من الاختطافات المزعومة التي بلغت - وفقا للفرس - أوجها في حرب طروادة، وفي الحقيقة في العداء الطويل بين الشرق والغرب. لكن هيرودوت يروي هذا التفسير الثأري للتاريخ نائيا بنفسه عن الجانبين، موازنا الرواية الفارسية برواية فينيقية، ومقدما رواية إغريقية أيضا. وهو فيما يبدو يقول إن النساء كن محلا للكثير من الحكايات المدغدغة للمشاعر التي يرويها رجال، ويستمتع الناس يقينا بالإنصات إلى هذه القصص، لكن هذا ليس بتاريخ؛ لأن المرء لا يستطيع الحكم على كون هذه القصص التي تعود إلى أزمنة الأساطير صحيحة أم لا. بالأحرى، سيبدأ وصفه في الأزمنة التاريخية بعهد كرويسوس، ملك ليديا، وهو أول رجل على ما بلغه أساء إلى الإغريق دون استفزاز، أو هكذا يزعم. والحقيقة أنه بتحديثنا عن كرويسوس، سيخبرنا بأمر جيجس سلف كرويسوس، الذي اغتصب العرش بعد أن أمره سيده كاندوليس بالنظر إلى الملكة وهي عارية. إنها قصة مؤثرة تقدم منطلقا للصلة بين «تاريخ هيرودوت» و«المريض الإنجليزي»؛ لأن أولماشي يصير متيما حتى الموت بزوجة رفيق له رسام خرائط، عندما تتلو قصة جيجس على مسامع الزمرة المجتمعة حول نار مضرمة في الصحراء. لقد نظرنا إلى هذه القصة من قبل من حيث تعلقها بمسألة الأصل، وهي تستحق التمحيص من جديد لرؤية كيف يوظفها هيرودوت كنموذج لكثير مما سيأتي في «تاريخ هيرودوت».
تكشف حكاية كاندوليس وجيجس والملكة غير المسماة بعمق عن كل من رؤية هيرودوت للتاريخ وانطباعه عن ملوك الشرق؛ ففي مطلع القصة، يحكم كاندوليس ليديا في هناء، متمتعا لا بعطاءات الملك فحسب، بل أيضا باقترانه بامرأة مفتتن بها كل الافتتان؛ فهو لا يشبع من النظر إليها، أو - فيما يبدو - من التباهي بمظهرها، منشئا وثاقا غريبا مع ساعده الأيمن جيجس بضغطه عليه للتفرس فيها بنفسه، على أن يفعل ذلك وهي عارية. ويتصاعد العنصر البصري هنا بفعل وصف كاندوليس عملية التعري التدريجية المطولة التي تمارسها زوجته ليلا، فيشرح قائلا إن هناك كرسيا في المخدع الملكي تضع عليه ثيابها قطعة قطعة أثناء تجردها، ويصر كاندوليس على تلصص جيجس عليها بصورة لا تليق أبدا؛ إذ سيضعه خلف باب المخدع كي يراقبها، وعندما يرى الملكة العارية، عليه أن يخرج خلسة دون أن تراه وهي تسير عارية من الكرسي إلى الفراش مولية ظهرها شطره. ولا نستطيع - نحن الجمهور - أن نقاوم المشاركة في هذا التلصص أيضا، حيث نتخيل نحن أنفسنا الملكة العارية وهي تتحرك من ناحية إلى أخرى في الغرفة، فنتساءل كم طولها، وما عرض ردفيها، وما إذا كان شعرها مسترسلا أم ملموما إلى رأسها.
لكن الملكة ترى جيجس وهو يخرج من المخدع الملكي، فتستجيب برباطة جأش تستحق الإعجاب. فهل يحتمل أن يكون شيء كهذا قد حدث من قبل؟ هل قالت لنفسها: «حسنا، هذا يكفي، هذه آخر مرة أسمح لزوجي بهذا الأمر»؟ غريب أنها لا تفترض أن هناك انقلابا ينفذ، ولا تصرخ طالبة النجدة. إنها تعرف زوجها جيدا، تعرفه أكثر مما يعرفها، وما كان يراه وهو يستمتع بجمالها الخارجي كان في الحقيقة مضللا؛ فهي تهديد أكثر منها كنزا. وبدلا من أن تفضح انفعالاتها أثناء الليل، تستدعي بهدوء شديد جيجس في الصباح وتبين له أنه هو وكاندوليس رأياها عارية، ولا بد أن يرحل أحدهما، وعندما يخير جيجس بين قتل الملك أو الموت، يختار قتل كاندوليس ويتزوج الملكة ويؤسس سلالة حاكمة جديدة.
لم تحافظ هذه الملكة مجهولة الاسم، بعزيمتها القوية، على شرفها فحسب (فالآن هناك رجل واحد فقط على قيد الحياة رآها عارية)، وعاقبت من انتهك حرمتها، بل أعادت أيضا تأكيد أعراف مجتمعها، فالعار كل العار في ليديا - كما يبين هيرودوت - أن يرى الإنسان عاريا حتى ولو كان رجلا، وهو شيء أدهش يقينا القراء في العالم الإغريقي الذي أدى فيه تمجيد الجسد الرجولي الشاب إلى العري في كل من المنافسات الرياضية والتصوير الفني. وقد أبدى جيجس بالتأكيد إدراكه أن خطة كاندوليس الحمقاء تنتهك الأعراف الاجتماعية بتوسله إلى الملك «ألا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تماما للعرف.» وأشار إلى ضرورة أن يستفيد الناس من منظومة الحقائق الأساسية القديمة التي تشمل مبدأ محوريا يقضي بأن «يقصر كل شخص نظره على ما هو له.» لا تئول الأمور إلى خير بالنسبة لكاندوليس، الذي استهل سلسلة الأحداث المشهودة هذه، لكن الملكة تضمن استقرار ليديا، التي ستكون على الأرجح أحسن حالا تحت حكم جيجس منها تحت حكم كاندوليس - الذي كان ألعوبة لشبقه الجامح - وتؤسس هي وجيجس سلالة حاكمة تدوم أجيالا.
يقدم هيرودوت هذا المشهد في مرحلة مبكرة من كتابه؛ لأنه - أي المشهد - يحكي لنا الكثير بالتأكيد عن أخطار تجاوز الحدود، مثلما يفعل خشايارشا عندما يبني جسرا عبر الهلسبونت، وعن نزعات الأوتوقراطيين المحفوفة بالمخاطر، وعن دور النساء كفاعلات على الساحة الإنسانية، وعن الطبيعة الشرطية للتاريخ؛ فجيجس ما كان ليصبح قط ملكا على ليديا لو لم يكن كاندوليس غريب الأطوار، ولو لم يصبح جيجس ملكا، ما كان سليله كرويسوس ليحكم أبدا ولا ليخوض حربا مع قوروش، وذلك بعبوره نهر هاليس.
نكتشف خلال قراءة الكتاب أن الأوتوقراطيين يسيئون معاملة النساء، ومن هذا تجري العواقب الدرامية؛ فبعد موت قوروش وابنه المجنون قمبيز، والقضاء على من اغتصبوا العرش من بعدهم، دارت مناقشة بين ثلاثة من أعيان الفرس حول نوع نظام الحكم الذي ينبغي أن يقيمونه. يقول هيرودوت إن بعض الإغريق ليسوا مقتنعين بصحة هذه المناقشة، لكنه يؤكد أنه جرت فعلا. فأوتانس - الذي يتحدث أولا - يؤيد الديمقراطية، مؤكدا أنها تحمل أجمل اسم من بين كل أسماء أنظمة الحكم، ألا وهو «المساواة أمام القانون». وليس هذا فحسب، فهو يهاجم الملكية على أساس أن الرجل الذي يحكم بمفرده يقوض تقاليد البلد الراسخة، ويغتصب النساء، ويقتل الرجال دون محاكمة. كل هذه العناصر موجودة في مثلث كاندوليس والملكة غير المسماة وجيجس، حيث ينتهك كاندوليس العرف بإجبار جيجس على رؤية زوجته عارية، أما القاتل المتردد جيجس فهو يقدم على قتل كاندوليس دون محاكمة إنقاذا لحياته (وبالتأكيد لا يقنع أوتانس الآخرين ؛ لأن الملكية استمرت في بلاد فارس كما هو معروف).
يعج «تاريخ هيرودوت» بملوك يسيئون إلى النساء، وكذلك بأوتوقراطيين إغريق يفعلون الشيء نفسه، وهم رجال كثيرا ما يصور هيرودوت سلوكهم باعتباره مماثلا لسلوك المستبدين البرابرة؛ فحاكم ميديا أستياجس يدبر مكيدة لقتل وليد ابنته عند ميلاده، بعد أن أخافته رؤية رآها في المنام، وإن كان الرضيع يفلت من الموت ويكبر ليصبح قوروش، مؤسس الإمبراطورية الفارسية. وابن قوروش، قمبيز، الذي تزوج باثنتين من أخواته منتهكا العرف الفارسي، يقتل إحداهما في نوبة غضب عندما تتفكر بحزن عميق كيف أنه أضعف منعته بقتله الشقيق الذي ربما كان سيقف بجانبه وقت الخطر. ولا يكتفي الحاكم الكورنثي بيرياندر بقتل زوجته ميليسا، بل يمارس الجنس مع جثتها. ويسلك الآسيويون كجماعات سلوكا مخيفا أيضا، حيث يغتصب الجنود الفرس بعض النساء الإغريقيات اغتصابا جماعيا حتى الموت.
أثار عدم سلوك الحكام الشرقيين سلوكا يوفر لهم الحماية الذاتية كما ينبغي (بالضبط كما لم يفعل كاندوليس) اهتمام هيرودوت بدرجة كبيرة، وأتاح له نافذة يطل منها على شخصية وحش الإغريق الفاشل، وهو خشايارشا نفسه؛ لأن هناك في الحقيقة معالجتين متوازيتين لهذا الموضوع تكتنفان «تاريخ هيرودوت»، وهما طيش كاندوليس وطيش ملك الفرس. ويتبين لنا أن خشايارشا لا يفوق كاندوليس حكمة في أمور الشبق، لكن افتقاره إلى الفطنة يتجلى بشكل مختلف نوعا ما؛ فهو - على نحو غير لائق - يسعى إلى غواية زوجة شقيقه العزيز ماسيستس، وعندما يخفق في مسعاه يحاول من جديد مع ابنة ماسيستس، أردانيت، فيزوجها ابنه ليبقيها قريبة منه، وتنجح مغازلاته معها، لكنه نجاح يجلب البلاء لأسرته؛ فهو بالإضافة إلى أن له أخا وزوجة أخ وابنة أخ، له أيضا زوجة هي أمستريس.
अज्ञात पृष्ठ