बुद्धि का सपना: ग्रीक युग से रेनेसां युग तक दार्शनिकता का इतिहास

मुहम्मद तल्बा नस्सार d. 1450 AH
35

बुद्धि का सपना: ग्रीक युग से रेनेसां युग तक दार्शनिकता का इतिहास

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

शैलियों

ورغم ذلك فلم يتمكن أي شخص من كتابة «طريق الحقيقة» مثلما كتبه بارمنيدس، الذي تعد كتابته إنجازا رائعا في هذا المكان وذلك الزمان. وقد تكون حجج بارمنيدس المجردة تجاوزت كل الحدود ولكنها حقا ظاهرة فريدة من نوعها، فمن خلال المحاولة التي قام بها بارمنيدس باستخراج مجموعة من الأفكار من مبدأ واحد، وهي فكرة تجنب الحديث عن «شيء غير موجود» وعلى نحو يتبع المنطق والحجة القوية، كان بارمنيدس أول من ابتدع استخدام التحليل النظامي للاستنتاج بعيدا عن علم الرياضيات، وقد ابتدع كذلك طريقة التفكير التي تنتهج محاورة طويلة تدور حول المبادئ العامة للوصول إلى استنتاجات صادمة عن العالم ومعرفة الإنسان به. وهناك العديد من الفلاسفة الذين يعتقدون كذلك أن العالم ليس كما يبدو لنا، ولكن بارمنيدس تميز عنهم باستخدام البرهان المفصل لإثبات وجهة نظره واكتشاف الخصائص الحقيقية للواقع. وقد سار آخرون على الدرب نفسه الذي شقه بارمنيدس، ورأينا نماذج لهؤلاء على مدار التاريخ. ونجد أهم هذه النماذج في كتابات هيجل ومن اتبعوه. ففي محاضراته عن تاريخ الفلسفة قال هيجل: «إن بارمنيدس قد استهل الفلسفة وسار فيها بشكل صحيح.» وربما قصد بذلك أن بارمنيدس كان المفكر الأول الذي امتلك من الحكمة ما أهله لأن يسبق هيجل.

أما باقي حديث هيجل عن بارمنيدس فيكتنفه الغموض، ولكن يبدو أن أكثر ما أعجبه هو فكرة أن «الشيء العابر لا حقيقة له» وهو ما يعني تقريبا أن أي شيء يتغير لا يمكن أن يكون حقيقيا. وهذه في الواقع هي فكرة بارمنيدس الرئيسة التي يمكن صياغتها بحيث تبدو وكأنها فكرة دينية أو صوفية، رغم أن استخدامه للجدل المنطقي يبعده كثيرا عن التقليديين والرومانسيين من الصوفيين. (وقد أسهب نيتشه في كتابته عن طريق بارمنيدس البارد ... المليء بالأفكار المجردة المذهلة.) ولا ريب أن هناك تشابها كبيرا بين مفهوم بارمنيدس عن الحقيقة المطلقة كشيء واحد لا يحده الزمن ولا يصيبه تغير ولا تبديل، ومفهوم زينوفان عن الإله الأحد الصمد والذي لم يكن مألوفا لدى الإغريق. ورغم ذلك فلا فائدة ترجى من التفكير فيما إذا كان بارمنيدس قد تأثر بزينوفان أم أن التوافق بينهما محض صدفة لا أكثر كما يرى نيتشه. كما أن الرؤية القائلة إن ثمة عالما سماويا يقع فوق عالمنا المضطرب والتي نجدها عند كل من زينوفان في شعره وبارمنيدس في حججه، لا يمكن أن ننسبها لأي منهما دون الآخر.

ورغم أصالة الاستدلال المنطقي لدى بارمنيدس وأهميته التاريخية فلا يمكننا إغفال أنه كان ينطوي على شكل من أشكال العبثية. أوليس من السخرية أن يختلق حججا وهو مرتاح على أريكته - أو من الأجسام السيارة في السماء كما في حالة بارمنيدس - تتناقض بكل بساطة مع ما يمكن أن ندركه بالطرق المباشرة والوسائل التي يعول عليها؟ وما الفائدة من السعي لإثبات أن شيئا واحدا فقط يمثل الوجود في حين أنك عندما تنظر حولك تجد أن ذلك هراء لا طائل منه؟

ورغم ذلك فلا يجب أن نجعل بداية بارمنيدس غير المقنعة تلقي بظلالها على هذه المشروعات الفكرية، فحتى لو كانت تتناقض صراحة مع ما يعتقد الناس أنه المنطق السليم في هذا الوقت فإن الحجج المنطقية المجردة يمكن أن تكشف عن حقائق مهمة؛ ذلك أن «المنطق السليم» أحيانا ما يخطئ ودائما ما يعتريه النقصان. ومن أفضل المحاولات التي قام بها بارمنيدس، وربما المحاولة الوحيدة التي يمكن أن نقتفي أثرها، هي تلك التي نجدها في أعمال تلميذه زينون وهي موضوعنا التالي.

الفصل الخامس

طرق المفارقة: زينون

لم يحتج العالم ألفين وخمسمائة عام حتى يدرك عبثية ما توصل إليه بارمنيدس من استنتاجات أوردها في قصيدته «طريق الحقيقة»؛ فقد انجلى هذا الأمر في عصره ولكنه لم يردع تلميذه زينون عن التمسك بآراء معلمه؛ فظل زينون (الذي ولد في حوالي عام 490ق.م.) مقتنعا بأفكار بارمنيدس لأنه اعتقد أن بمقدوره أن يقلب الطاولة على الآراء المنافسة التي تتحدث عن «المنطق السليم».

وثمة رواية عن زينون توضح لنا كيف حاول زينون فعل ذلك؛ إذ يروي لنا أفلاطون كيف أن بارمنيدس وزينون هجرا بلدتهما إيليا قاصدين أثينا ابتغاء حضور مهرجان «باناثينا الرياضي العظيم» الذي يقام كل أربعة أعوام وتكون فيه عروض للموسيقى والشعر والرياضة ويخصص لإلهة أثينا. وبينما هما هناك فإذا بهما يلتقيان بسقراط الذي كان صغيرا آنذاك، فقرأ عليه زينون رسالة كان قد كتبها، فسأله سقراط عن الكتاب ومضمونه، فأجاب زينون بأنه «كتاب يدافع فيه عن بارمنيدس» ضد من يسخرون منه وأنه يرد عليهم فيه مستخدما منطقهم نفسه، وختم حديثه بقوله إن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. وكانت عدته في ذلك مجموعة من المفارقات غاية في البراعة والحذاقة في محاولة منه للتشكيك في رؤى المنطق السليم بتوضيح أن مثل هذه الرؤى قد تقود إلى نتائج غير مقبولة، وكان غرضه من ذلك هو إعلاء شأن بارمنيدس على الأقل بتوضيح أن آراء معارضيه ليست بأفضل منه حالا.

ولنأخذ على سبيل المثال إحدى مفارقات زينون الفاضحة عن الحركة. لنفترض جدلا أن الحركة ممكنة فعلا كما يقول المنطق السليم وعلى عكس ما يرى بارمنيدس، ولنفترض كذلك على سبيل الإيضاح أن العداء السريع أخيل ينوي أن يشترك في سباق للجري خلال مهرجان باناثينا الرياضي العظيم، ولكن زينون يقول لأخيل إنه قبل أن يصل إلى نقطة النهاية يتعين عليه أولا أن يمر بمنتصف الطريق، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق لا بد له أن يقطع مسافة ربع الطريق، ولكي يقطع هذه المسافة أيضا لا بد له أن يقطع مسافة ثمن الطريق، فبدأ القلق ينتاب أخيل لأن عملية التفكير هذه قد تستمر دون نهاية؛ وبذلك أقنعه زينون أنه لا يمكنه أن يقطع أية مسافة على الإطلاق لأن هذا يقتضي منه قطع نصف المسافة ثم ربعها ثم ثمنها إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم فلا يمكن للسباق أن يبدأ أبدا. ويلمح زينون إلى أن هذه هي حالة الارتباك التي تنتاب المرء حين يفكر في الحركة؛ ولذلك انتهى زينون إلى أنه من الأفضل الاعتراف بصحة قول بارمنيدس بعدم حركة الأشياء.

وثمة ألغاز كثيرة على هذه الشاكلة . ولم يتبق من مفارقات زينون سوى تسع مفارقات: أربع منها تتحدث عن الحركة، وثلاث عن فكرة «التعددية» التي تشير إلى وجود العديد من الأشياء بدلا من شيء واحد فقط كما يقول بارمنيدس، وواحدة للرد على فكرة الفضاء، وأخرى توضح أن الحواس لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها. وقد يكون هناك المزيد من هذه المفارقات، فزينون كان حاذقا في ابتكار هذه الألغاز واستخدامها في مناظراته. ويذكر بلوتارخ في السيرة الذاتية التي كتبها عن رجل الدولة والخطيب الأثيني بريكليس أنه «كان يوما ما تلميذا لزينون الإيلي وأنه قد تعلم منه مجموعة من المفارقات لتفنيد آراء معارضيه للدرجة التي تجعلهم يصابون بالحزن والكدر.»

अज्ञात पृष्ठ